العودة إلى المهاجع في صيدنايا: استمرار التعذيب والقتل
صيغة الشهادة:
مدة المقطع: 00:24:56
طبعًا أنت في سجن صيدنايا تمشي راكعًا وتجلس جاثيًا أو ساجدًا، ويقول لك العسكري: "جاثيًا ووجهك على البلاط"، أي ساجد أو جاثٍ بشكل عادي وهذا قليل، أو راكع وتمشي راكعًا ويداك على عينيك بهذا الشكل حيث أسفل الكف يجب أن يسدّ عينيك، ويعلمونك في سجن صيدنايا شيئًا، فسياسة سجن صيدنايا مختلفة عن كل الفروع في قضية أنك لوحدك يجب أن تتعلم كيف "تكلبش" (تقيّد - المحرر) نفسك، و"تطمّش" نفسك بكنزتك (تغطّي عينيك - المحرر)، وتضع يديك خلف ظهرك بدون "كلبشة" (قيد)، وتغمض عينيك لوحدك، وتقيد نفسك بنفسك بدون أن يضعوا لك قيودًا وبدون أن يضعوا لك "طمّيشة" (عصابة العيون – المحرر).
أخرجوني من الزنزانة فخرجت من الزنزانة وأنا راكع، وقال لي: "ماذا كنتم تتحدثون في الزنزانة؟"، فقلت له: "سيدي لم نكن نتحدث بشيء"، قال: "كذاب"، قلت: "لا"، وبينما كان يقول لي "كذاب" كان يطفئ السجائر في ظهري، حيث كشف عن ظهري وصار يطفئها بظهري، قلت له: "إن تعليماتكم سيدي هي ألا نتكلم فلم نتكلم"، فقال: "هل لا تزال تتذكر ما حصل في الشام (دمشق)؟"، فقلت له: "وماذا حصل في الشام؟"، قال: "يعني أنت لا تتذكر؟"، قلت له: "لا"، فقال: "ألا تعرف ماذا سوف يحصل؟ وماذا يوجد من أخبار؟ وما هي أخبار المشاكل التي تحصل في الشام؟"، قلت له: "لا، أبدًا أبدًا"، فأطفأ السجائر وقال لي: "كذاب". كان هو وصديقه وكل واحد منهم معه سيجارة يشعلها ويطفئها [في جسدي]، وبعد ذلك أخذوني للأعلى، وكانت عندي زيارة.
هناك زيارات قديمة سأتحدث عنها، طبعًا أخذوني إلى الأعلى، ووضعوني في غرفة الزيارات، وأحسّ عليّ الشباب رفاقي الذين كانت تأتي زياراتهم مع زياراتي- الآن سأتكلم عن هذه الفكرة - وعرفوا أنني جئت وفوجئوا، ولكن بعد ذلك لم تأتِ الزيارة ويبدو أنها قد أُلغيت.
وأخذونا مع بعضنا إلى المهجع، وأدخلوني فرآني باقي الشباب وصُعقوا فقد كانوا يظنون أنني خرجت [من السجن]؛ لأنني خرجت منذ 5 أشهر فمعنى ذلك أنني قد خرجت، [ولنقل] كانوا يظنون أنني أُعدمت أو خرجت، وهم كانوا يستبعدون الإعدام؛ لأن أولاد دعوتي لم يُعدموا معي (المقصود أنهم لم يخرجوا مع الشاهد – المحرر) وبقوا موجودين في المهجع، فتوقّعوا أنه قد أُخلي سبيلي بواسطة لوحدي.
وعندما رأوني صُعقوا؛ لقد كانت حالتي الصحية أسوأ منهم جميعًا، فخلال هذا الشهر ساءت حالتي الصحية؛ وكل الغذاء الذي أخذنه في الجوية (فرع التحقيق في المخابرات الجوية – المحرر) والنعيم الذي عشته فيها، وطبعًا الجوية هي جحيم، ولكنها بالنسبة إلى صيدنايا نعيم، كله فقدته في هذا الشهر، وكانت صحتي متعبة جدًا، وعندما رأوني صُعقوا، وكان هناك شهداء من الشباب من رفاقنا وأولاد دعوتنا قد توفاهم الله في غيابي، فسألتهم عنهم وحتى لا يصدموني أكثر قالوا: "إنهم في المستشفى"، وبعد ذلك أخبروني القصة، وسنعود للحديث عن هؤلاء.
طبعًا جئت فوجدت الشباب بدون بطانيات، كانوا يرتدون الثياب، ولكنهم بدون بطانيات، والمهجع الذي بجانبنا كان بدون بطانيات وبدون ثياب، وكانت هناك عقوبة على المهجعين؛ لأنهم ناموا بدون إذن، فبقوا شهرين أو 3 شهور بدون بطانيات وبدون ثياب.
في صيدنايا لا يمكنك أن تفعل شيئًا إلا بإذن وأمر، وفي المساء سمعوا صوتًا، ويبدو أن أحد العناصر قال: "نيام الكل"، وقالها مع كلمة وسخة (بذيئة) "على أهلك وكذا"، ويبدو أن هناك من أعطى هذه التعليمة، فنحن صدقنا ونمنا، ونحن لا نصدق متى ننام (ننتظر النوم بفارغ الصبر - المحرر)، وعندما يقول لك: "نيام الكل"، فأنت تسحب البطانيات من الزاوية التي تتجمّع فيها وتمدّها وتنام عليها، وتتغطى فيها، وما عدا ذلك فأنت طوال الوقت تجلس على البلاط، وفقط أثناء النوم يمكنك أن تسحب البطانيات حتى تنام، وعند الساعة 5:00 صباحًا تستيقظ وترتب البطانيات وتعود لتجلس على البلاط.
كانت هناك 3 بطانيات (للمعتقل الواحد- المحرر)، وأحيانًا يضع الشخص بطانية تحته واثنتين فوقه وأحيانًا يضع واحدة فوقه واثنتين تحته، ولكن لا يصمد هذا أمام برد صيدنايا، وهذه البطانيات ليس لها قيمة، فأنا البارحة تغطيت ببطانية وبردت هنا في إسطنبول، فلا يصمد الشخص، أحيانًا الشباب كانوا يقومون بشراكة مثلًا: يضعون بطانيتين على الأرض؛ بطانية الشاب الأول وبطانية الشاب الثاني، ويمدونهما بشكل ملتصق حتى يحصلوا على سماكة بطانيتين، ويتغطيان بالباقي، وهكذا يصبح تحتك بطانيتان عمليًا وفوقك بطانيتان أنت وصديقك بهذه الطريقة، فإذا كانت هناك ثلاث بطانيات فتصبح اثنتان تحتك وأربع فوقك، ليس تحتك بالضبط إنما يكون نصفك على اثنتين وطرفك الآخر على واحدة، وتنام على سيفك (جانبك) فتكون على اثنتين، وفوقك أربع بطانيات فتتدفأ بهذه الطريقة.
الشباب سمعوا (سمعوا ما قاله السجّان – المحرر)، فرتّبوا البطانيات قبل أن آتي بعدة أيام، وجاء السجان وقال لهم: "من الذي قال لكم أن تضبوا البطانيات؟ ومن سمح لكم بالنوم؟"، فقلنا له: "أنتم يا سيدي"، فقال: "حسابكم غدًا". والمهجع الذي قبلنا جاء وقال لهم ولم يردوا عليه في البداية؛ لأنهم كانوا نائمين، ونحن عندما قال لنا مباشرة استيقظنا؛ ولذلك نحن فقط جعلونا نخرج البطانيات إلى الخارج، ولكن المهجع الذي قبلنا جرّدهم من ثيابهم، وألقوا البطانيات إلى الخارج. وعندما جاء اليوم الثاني قام بهذه العملية، أي أخرجوا كل شيء في اليوم الثاني، وتركونا بهذا الشكل لمدة شهر أو شهرين، الناس ينامون على البلاط، وأحيانًا يغرقون المهجع بالماء البارد ودرجة الحرارة دون ناقص واحد، ولا توجد تدفئة في سجن صيدنايا، ودائمًا عندما يغرق المهجع بالماء يسقط شهيد أو شهيدان بسبب البرد.
عندما يسقط شهيد بسبب البرد أو المرض أو الجوع أو الجرب أو من أي شيء أو من التعذيب بعد الضرب فإن ما نفعله أننا إذا أدركناه وهو يلفظ أنفاسه، وإذا كنا مستيقظين وهو مستيقظ، أننا نلقنه الشهادة، ونقول له: "سامحنا"، وبعد أن نلقنه الشهادة، وعلى اعتبار أن هناك أزمة ثياب في المهاجع ونحن نعرف أن الشهداء يأخذونهم ويعرونهم ويضعونهم في أكياس نايلون، ولا أعرف إلى أين يأخذونهم، فيكون هناك قرار واقعي أو عقلاني، وهو أن نأخذ ثيابه ونُلبسَه شيئًا يستر عورته، فيخرج من عندنا وقد سُترت عورته، ولكننا نأخذ ثيابه، والحي أبقى من الميت. وهذا الذي يحصل، نأخذ ثيابه ونُلبسَه شيئًا يستر عورته، مثلًا: بنطال ممزق حتى يستر عورته. وفي الصباح عند الساعة الخامسة عندما نستيقظ ونوضب البطانيات، ينادي السجان من الخارج ويقول: "يا عرصات المهاجع، من عندكم فطسان (ميت) اليوم؟"، ومثلًا: المهجع رقم 5 يقول: خمسة واحد، أي أن المهجع رقم 5 لديه 1 (ميت واحد – المحرر)، أو ستة اثنان أو أربعة واحد وهكذا، وكل يوم تُقال هذه العبارة.
وإذا كان هناك مهجع ليس فيه شهداء، فإنهم يصعّدون الضرب ويضربون المهجع بشكل أكثر وتعذيب، فيقول السجان: "معقول مافي حدا عندكم؟ ما فطس حدا؟ ماشي ماشي"، وعندما يأتي وقت الغداء، فهم متى يفتحون الباب علينا؟ يفتحونه عندما يقومون بإدخال الغداء إلينا، فيدخلون الغداء ويشنّعون بنا. وكان ممنوعًا أن يفتح السجان الباب لوحده، وطبعًا هذه الأمور عرفناها من معتقلين قدامى رأيتهم في الجوية، وهم حدثوني أن كل هذه الإجراءات حصلت بعد استعصاء صيدنايا في عام 2008، فالعسكري الذي يدخل إلى مهجع لوحده يتحمّل مسؤولية دخوله وليس مطلوبًا من قيادة الجيش إنقاذه؛ لأنه دخل لوحده، فعندما يدخل يجب أن يكون معه قوة يدخلون ويفتحون الباب كمجموعة، ويكون هناك عنصر في رأس الجناح يقف ويرصد، وفي داخل السجن يوجد عناصر ينتظرون أي إشارة، فهذا الذي في المنتصف يقول: "توجد حركة هنا"، وفورًا (...)، رغم أننا لا نستطيع أن نفعل أي شيء لأي أحد بسبب الضعف، ولكنهم يخافون.
يفتحون الباب ويدخلون، ويكون مثلًا: قد اصطف الأشخاص الأربعة الذين عندهم العقوبة التي ذكرتها قبل قليل، يكونون في المنتصف فيعاقبونهم، وهنا إذا أرادوا أن يموت أشخاص فإنهم يشددون العقوبة ويضربون أكثر ويضربون بوحشيه أكثر. وحصلت حالات (...)، فقد كان هناك شخص سوف يُعدم فقاموا بهرس رأسه بنعلة (حافة) الجدار. وهذه الأمور أنا سمعت بها خلال الزيارات، فعندما أخرج إلى الزيارات أسأل معتقلي المهاجع الثانية عن الأخبار، ويقولون: حصل كذا وكذا، وأنا سمعت بحالتين لم تحصلا أمامي، وهي النعلة وإبرة الهواء أو إبرة المازوت، فقد كانت هناك طريقتان للإعدام غير الرسمي أي غير الشنق، وأعتقد أن قصة إبرة المازوت حصلت في مشفى 601 (مشفى المزة العسكري – المحرر)، وأما إبرة الهواء فيحقنونه في الوريد، وهي عبارة عن إبرة فارغة، وعندما يدخل الهواء في دم الشخص فإنه يموت خلال وقت قصير، وكان هناك شخص لديه نوبة بحصة وكان يصرخ، فسمع السجان صوته في الليل، وقال له: "لماذا تصرخ؟"، فأجابه [أحد المعتقلين]: "سيدي، لديه بحصة"، وقال السجان: "الآن سوف نعالجه". جاءت المفرزة وفتحوا باب المهجع، وحقنوه إبرة في رقبته، وقال له: "الآن سوف تُشفى"، وبعد قليل مات.
أما إبرة المازوت فتكون مملوءة بالمازوت، وهذه القصة حصلت في مستشفى 601، هكذا أتذكر، ففي مستشفى 601 كانت هناك حفلات إعدام يومية، وكانوا ينتقون أشخاصًا بدون سبب معين، فيقول: "تعال أنت وتعال أنت"، ويكون "عزرائيل" سكرانًا مع رفاقه (...)، فيضربونهم باستمرار، وكانت الطريقة العجيبة (...)، سنتحدث لاحقًا عن الـ 601، ولكن الآن لن نبتعد كثيرًا.
نعود إلى صيدنايا، أنا مهجعي7 حيث كان [رقم] مهجعي في المرة الأولى 3 ثم نقلونا إلى7، فنقول: "في المهجع 7 هناك 3"، أي 3 شهداء على سبيل المثال، فيقول [العسكري]: "ارمهم إلى الخارج يا عرصة المهجع"، فيأخذ رئيس المهجع أحد الأشخاص ويقول له: "ضعه في بطانية وارمه خارج المهجع"، فتأخذ أنت البطانية وتضع فيها الشهيد وتضعه عند الباب، يكونون قد فتحوا الباب، وهنا الأشخاص الذين يحملون الجثة يتعرضون للضرب أثناء تسليمها.
الخسائر الفظيعة أين تكون؟ تخيّلوا كيف أن محاكمات الإنسان تصبح مادية جدًا ونفعية وليست إنسانية حتى السجناء؛ فأنت تحسب حسابًا أن هذا الشخص قد مات [وتقول في نفسك:] "لا تمت وإلا سوف نخسر بطانيات"؛ لأنه كلما مات شخص فأنت تضعه في البطانية، ويذهب هو والبطانية والبطانية لا تعود، وهكذا تنقص البطانيات، بينما تفكيرنا الإنساني [يجب أن يقول] ذهب الغالي فلا أسف على الرخيص، وماهي قيمة البطانية؟! ولكن تفكير الناس في السجن أن هذه البطانية أتدفأ بها، وإذا خسرت البطانية سوف أخسر التدفئة وسوف يموت أشخاص أكثر.
قبل أن يموت طلعت محفوض وهذا الأمر رصدناه في سجن صيدنايا كرابطة (رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا – المحرر)، قبل موته كان معدل الشهداء أقل، وطلعت محفوض كان مجرمًا، ولكنه لم يكن بإجرام الذي بعده. وعندما مات طلعت أصبح في كل جناح - لأكون دقيقًا وصادقًا - الجناح الذي فيه 10 مهاجع فيه وسطيًا 4 شهداء يوميًا، أو لنقل أقل شيء 4 شهداء بالحد الأدنى، هذا عدا الذين يُحالون إلى الإعدام وعدا الذين يُحالون إلى المشفى ويُصفّون فيها. وعمليات التصفية في مشفى تشرين العسكري دائمًا [موجودة]، فالشخص يذهب إلى المشفى وهو بنصف عمر وهناك يُجهزون عليه، وهم يحسبونها بطريقه حقيرة، فالسياسة عندهم أن من يموت عندك في السجن، أي من يموت مرضًا وليس تنفيذًا (تنفيذًا لحكم الإعدام – المحرر)، فأنت ترسله إلى مشفى تشرين العسكري إذا كان في صيدنايا، وإذا كان في الفروع الأمنية فأنت ترسله إلى مشفى 601، والطبيب الشرعي يوفّيه ويكتب له شهادة وفاة ويضعونه في كيس مثلما شاهدنا في صور قيصر ("صور قيصر" المسربة بداية عام 2014 لآلاف المعتقلين القتلى تحت العذيب – المحرر)، ويأخذونه إلى المقبرة الجماعية، هذا هو المسار. وأي شخص يموت في المهجع أو الفروع أو صيدنايا سوف يأخذونه وهذا أمر إجباري، بينما إذا أحضروا شخصًا بنصف عمر أو بقي له القليل حتى يموت، [فلسان حالهم يقول:] "لماذا حتى أجعله يعود إلى الفرع أو السجن وبعد ذلك يعود إليّ ويموت؟ ولماذا حتى أنشغل بمعالجته؟ وإنما أقتله وأتخلص منه، فهو في كل الأحوال ميت".
وهكذا كانوا يصفّون الكثير من الناس بهذه الطريقة ووفق هذه الآلية، أي أنه سوف يموت [في كل الأحوال]، لدرجة أن أحد الشباب المرضى والذين كانوا يأخذونهم حتى يعالجوهم وتكون صحتهم جيدة وبإمكان الواحد منهم أن يعيش، وكانوا يجعلونهم يعملون في تكييس الشهداء، أحدهم قام بتكييس أول شهيد وثاني شهيد، وكان هناك معتقل وضعه خطير ولم يمت وفيه روح (لا يزال على قيد الحياة) ومازال يتنفس، فقال له [العسكري]: "كيّسه"، فأجابه: "سيدي، ولكنه لا يزال حيًا!"، قال له: "أقول لك كيّسه"، فوضعه في الكيس واختنق ومات.
كانت تحصل عمليات عسكرية طاحنة، وكنا نسمع صوتها على أبواب السجن، وهناك معركة من المعارك كانت فعلًا مرعبة، وهناك أصوات قوية، وسقطت قذائف على السجن، وفي يومها بقينا يومًا كاملًا بدون طعام حتى اليوم الثاني، وعرفنا بعد ذلك من خلال بعض الشباب الذين خرجوا وكانوا في المشفى أن المعارك على جبهة التل كانت طاحنة وقد قُطع طريق التل.
وطبعًا عند الذهاب إلى سجن صيدنايا، في الأصل لم تكن تستطيع السيارة المرور من طريق التل، وقبل السجن كان الطريق يأخذ معي إلى سجن صيدنايا 30 دقيقة أو أقل من دمشق إلى صيدنايا، وعندما أخذونا إلى السجن بالسيارة استمرّ الطريق لساعتين؛ لأنهم كانوا يمرون بطرقات جبلية فطريق التل مقطوع. المهم أنه عندما حصلت هذه المعركة انقطع الإمداد، وفي سياسة سجن صيدنايا بعد استعصاء عام 2008 أصبحوا لا يتركون مخزونًا من الطعام في السجن، وكان الطعام يوميًا يأتي أولًا بأول من سجن القابون، حيث يُطبخ في القابون ويُحضر إلينا، وانقطع الطريق، فحُرمنا من الطعام حتى اليوم الثاني.
في أحد الأيام تعرض النظام لخسائر كبيرة، وانقطعت الكهرباء مساء عن السجن نتيجة المعارك، وفي اليوم الثاني دخل السجان وقال: "من هو الشخص الذي قال: أشعلوا لنا الكهرباء نريد ضوءًا؟"، فقلنا له: "يا سيدي، لسنا نحن"، والمهجع الذي أمامنا قال: "لسنا نحن"، وفي كل المهاجع لم يتكلم أحد، وفي الأساس لم يقل أحد: "لا يوجد ضوء"، فقال العسكري: "بل هناك شخص منكم من هذه المهاجع"، وتعرضنا لضرب شديد وحشي، ولكن لم يمت أحد الحمد لله، من مهجعنا لم يمت أحد، ولكن من مهاجع أخرى قد يكون هناك من مات.
كما ذكرت قبل قليل كان هناك آلية لاختيار المعاقبين بالدور، وطبعًا يختار رئيس المهجع المعاقبين ويختار لهم العقوبة، ومن الأمور الممنوعة في مهاجع صيدنايا هي الاقتراب من الباب، والمهجع إذا كانت هذه الغرفة 40 مترًا فهو تقريبًا مثل هذه الغرفة أو أكبر قليلًا، والمساجين محشورون في زاوية ضيقة جدًا وباقي المهجع كله فارغ، وممنوع الاقتراب من الباب، وإذا ظهر خيالك إلى الخارج فإنه سوف يظهر أن هناك من اقترب من الباب، وهذه الزاوية التي يُحشرون فيها هي بين الحمام والجدار، وتجاوز خط الحمام يقولون عنه جريمة أيضًا، فإذا كان هذا هو خط الحمام وتجاوزت خط الحمام دون أن تصل إلى الباب بعد والذي هو ربع المهجع، فإذا تجاوزت الربع ولم تقترب بعد من الباب فيعتبرونه تجاوزًا لخط الحمام، وهذه جريمة، والهمس جريمة، والاقتراب من الباب جريمة، وكل هذه جرائم.
ويأتي رئيس المهجع ويقول لك: "ما هي الجريمة التي تختارها؟"، ويقول: "أنت خط الحمام وأنت كذا وأنت كذا"، هذه كلها جرائم، وعندما يأتي السجانون يقولون له: "ماذا فعل هؤلاء؟"، فيقول: "يا سيدي، هذا خط الحمام وهذا كذا وهذا اقترب من الباب"، ونُضرب بهذه الطريقة، ويضربوننا حتى نموت أو يُغمى علينا، والضرب يكون على الرأس بالأخضر الإبراهيمي الثخينة.
وأتذكر أنهم عندما بدؤوا يضربونني فتحت عيني قليلًا ورأيت شيئًا ينزل، والعسكري لم ينتبه أنني أراه، وبعد ذلك غبت عن الوعي. ويستمر [السجّان] يضربك إلى أن تصحو ويكون الضرب مستمرًا، فيجعلك تزحف هكذا حتى تصل إلى الحمام على الأوساخ، وأتذكر أن رفيقي سبقني إلى الحمام بعد أن انتهى ضربه، وأنا لحقته زحفًا إلى أن دخلت إلى داخل المرحاض حتى تركني [السجان]، وأتذكر أنني لم أكن أعي شيئًا من الدنيا إلا دم صديقي ينزل في الحفرة ودمي كان ينزل معه. وعندما يخرج السجانون يقوم الشباب بتضميدنا وعناقنا، وهذا الأمر كان يحصل كل عدة أيام.
تنقلنا بين مهجعين، قضينا في المهاجع 6 أشهر، هذا هو المجموع، عندما خرجت كنت في مهجع، وعندما عدت (حين عاد الشاهد للمرة الثانية إلى سجن صيدنايا بعد إحالته إلى فرع التحقيق في المخابرات الجوية بين نيسان/ أبريل – أيلول/ سبتمبر 2013 – المحرر) وجدت أن جميع سجناء مهجعي وجماعتي ورفاقي قد نقلوهم إلى نفس المهجع، وأعادوني إلى نفس المهجع الذي نقلوا إليه الشباب، فانتقلنا إلى مهجع ثان.
وفي هذا المهجع عندما جئت كان هناك تصعيد في الموت، وصديقي كان قد استُشهد، والشباب في البداية أخفوا عني الموضوع وبعد ذلك قالوا لي، اسمه مصطفى دوابي، وهذا الشهيد التهب جسمه كله،
طبعًا أنا لم أستطع رؤيته؛ لأنه قبل أيام من قدومي استُشهد، وقال لي الشباب إنه في الصباح كان ميتًا بسبب البرد؛ لأنهم كانوا قد حرمونا وسحبوا منا البطانيات، وهو كان يقول لهم: "يا شباب، دفئوني أنا أموت من بردي"، وقالوا له: "لا يوجد شيء حتى ندفئك إلا أكياس النايلون التي وضعناها فوقك"، فمرض ومات. وهم أخرجوا خرّاجًا من فمه بطول الإصبع، وهو لم يكن يستطيع الأكل لأن كل فمه خراجات، وكانوا يطحنون الرز له ويضعونه بالماء مثل الشوربة "المرق" حتى يشربه.
مصطفى لم يعمل بالعسكرة، وكان يحلم أن يعمل بالعسكرة، وهو كان يعمل بالإغاثة وبالمظاهرات، عمليًا كل الشباب الذين كانوا (في صيدنايا – المحرر) كانت علاقتهم بالعسكرة شكلية وهامشية جدًا، والمعتقلون كلهم اعتُقلوا في بداية عام 2012 حتى منتصفه من الذين كانوا معنا، وعمليًا العسكرة لم تكن قد أخذت أبعادها كافة، إلا قلة، فقد كان هناك منشقون، ولكن العسكرة لم تكن بهذه "الحماوة" (الزخم) التي أصبحت عليها.
هذا مات، ومات واحد آخر بعده وهو رفيقنا محمد طباع وغيره وغيره.
هؤلاء كلهم - وأنا دائمًا أكرر ذلك – إذا كنا لا نريد الحديث عن نظام، وتحدثنا عن دولة تحترم نفسها في العالم، فكان بإمكانها إنقاذ حياة مواطن، لنسمّه "مجرمًا" إذا كانوا يعتبروننا مجرمين، وكان يكلفها في ذلك الوقت 75 ليرة سورية، أي أقل من دولار أو دولار واحد، وهذا الدولار هو سعر كيس سيروم وحبة إسهال، وكانت كفيلة بإنقاذ الشخص الذي يعاني من جفاف شديد وإسهال شديد يسبّب هذا الجفاف، ولكن حتى هذا الأمر لم يكونوا مستعدين أن يعطوه إياه من أجل إنقاذ حياته. وكثير من الناس الذين كانوا يموتون من الجرب، أو كانت تتهشم أجسامهم من الجرب، كان بإمكانهم أن يعطوهم حبة التهاب واحدة في اليوم؛ حتى يُشفوا أو حتى يُشفوا بنسبة 80%.
والدليل أنه عندما اقتربت مفاوضات جنيف (بدأت مفاوضات جنيف 2 في 25 كانون الثاني/ يناير 2014 – المحرر) تغيرت المعاملة بشكل كامل، وتجوّل مدير السجن في المهاجع وتكلّم لأول مرة بلهجة لطيفة وقال: "كيف هو الوضع يا بني؟ إنكم تتدفؤون مثل بيوتكم، بل أفضل أليس كذلك؟"، وطبعًا قلنا له: "حاضر سيدي"، وفي اليوم الثاني دخل الطبيب، وطبعًا كان طبيب السجن مجرمًا أيضًا، وقال: "ليتجرد الجميع من ملابسه ويلتفت على الجدار"، فظننا أنهم سيطلقون الرصاص علينا رشًّا، فتجردنا من ملابسنا والتفتنا إلى الجدار، وقاموا بجولة على جميع المهاجع وشاهدونا، حيث شاهدوا أجسامنا كيف أصبحت بسبب الجرب، وسمعتهم يقولون: "الجميع جربان، كل المهاجع أصابها الجرب"، ووزعوا أدوية التهاب على جميع المهاجع، وكانت حصة الشخص يوميًا بمعدل حبتي التهاب إحداهما في الصباح والأخرى في المساء، وكانوا يُوزعون ويرمون من الطاقة على الأرض، ونحن نجمعها، وكان للشخص حبتان في اليوم، و[بعد تناول] هاتين الحبتين خلال أسبوع كان 90% أو 80% من الجرب الذي في أجسامنا، أو 70% حتى لا أبالغ قد شُفي لوحده، والتقرحات شُفيت لوحدها، وأصبحوا يهتمون بالنظافة.
واستمرت هذه الحالة، وتحسن مستوى الطعام قليلًا، وازدادت كميته قليلًا، وتوقف الضرب، واستمرت هذه الحالة حتى خرجت، وبعد أن خرجت بعدة أيام عرفت من بعض الشباب أنه قد تعسرت جنيف (محادثات جنيف)، وبعد أن خرجت بأسبوع أو أسبوعين عرفت أن الوضع قد ساء من جديد في سجن صيدنايا.
معلومات الشهادة
تاريخ المقابلة
2020/02/17
الموضوع الرئیس
معتقلات الأسدكود الشهادة
SMI/OH/131-41/
رقم المقطع
41
أجرى المقابلة
سهير الأتاسي
مكان المقابلة
اسطنبول
التصنيف
مدني
المجال الزمني
2013
المنطقة الجغرافية
محافظة ريف دمشق-صيدناياشخصيات وردت في الشهادة
كيانات وردت في الشهادة
سجن صيدنايا العسكري
مشفى المزة العسكري 601
مشفى تشرين العسكري
فرع التحقيق في المخابرات الجوية