الذاكرة السورية هي ملك لكل السوريين. يستند عملنا إلى المعايير العلمية، وينبغي أن تكون المعلومات دقيقة وموثوقة، وألّا تكتسي أيّ صبغة أيديولوجية. أرسلوا إلينا تعليقاتكم لإثراء المحتوى.
ملاحظة: الشهادات المنشورة تمثل القسم الذي اكتمل العمل عليه، سيتم استكمال نشر الأجزاء المتبقية من الشهادات خلال الفترة اللاحقة.

من زنزانات إلى مهاجع سجن صيدنايا العسكري، وخريطة السجن

صيغة الشهادة:

فيديو
نصوص الشهادات

مدة المقطع: 00:30:20

قبل أن نخرج من المهجع بأشهر، أظن قبل ذلك بشهرين، كنا قد خرجنا إلى إحدى الزيارات، وسمعنا في الزيارة ينادون على اسم شخص نعرفه وهو عمرو خلف فرج الله عنه، عندما عدت إلى الزنزانة قلت لهم: عمرو أصبح في صيدنايا (سجن صيدنايا العسكري – المحرر)، وذُهلنا كلنا، وهو معنا في نفس الدعوة، وطوال وجودنا في الزنزانة كنا نسأل بعضنا، هو كان معنا في نفس الدعوة ولكن بعد ذلك فصلوه، وكنا نتساءل ونقول: "تصوروا أنهم إذا أخذونا إلى المهاجع نذهب إلى مهجع فيه عمرو!"، طبعًا أعتقد من قبيل الصدفة البحتة أننا خرجنا وذهبنا إلى المهجع وفوجئنا بعمرو، وكانت فرحة لا توصف في ذلك الوقت أبدًا، يعني كانت هذه إحدى الأفراح التي مرت عليّ في الثورة، فقد كان هذا الشخص رفيق نضال، وافترقنا عن بعضنا في الاعتقال، ثم اجتمعنا في الفرع، ثم افترقنا عندما ذهبنا إلى صيدنايا أو عندما ذهبنا إلى الإيداع، ثم اجتمعنا الآن من جديد.

طبعًا هو والشباب الذين كانوا معه كانوا قد جاؤوا إلى صيدنايا منذ 3شهور، وفي المهاجع أنت عندما تخرج من زنزانات صيدنايا إلى مهاجع صيدنايا هناك نمط حياة جديد، وتوجد أدبيات للحياة جديدة، ويوجد نظام جديد يتبعه السجناء بإدارتهم لطريقة توزيع الطعام والنظافة وتوزيع الثياب التي تأتي من الزيارات، وكيف يُوزعونها، وكيف يديرون الموضوع، وكيف يتعاملون مع تهديدات الشرطة العسكرية، وكيف يقسمون العقوبات بين بعضهم كمعاقبين ومن سيتعاقب كل يوم في دور المعاقبة، وكيف يتناوبون في تنظيف الحمام وأرض المهجع كل يوم صباحًا وورديات التنظيف، وكل هذه الأمور كانت غريبة علينا؛ لأننا خرجنا من الزنزانات بعد 5 شهور.

عندما رأيت عمرو صُعقت بشكل رهيب، وبقدر ما فرحت بقدر ما صُعقت، ولم أكن أصدق، وكانت فرحة في وسط رعب صيدنايا، كانت فرحة لا توصف، وأتذكر في يومها أن عيني دمعت، وبعد ذلك تعرفت على الشباب الذين كانوا معي في الزنزانة، وخاصة -رحمه الله- أشرف الخطيب وأبو جميل حسينو، وعرفوني عن أنفسهم، وقالوا: "أنا فلان"، وقلت لهم: "أنا فلان"، وقبّلنا بعضنا، وأصبحنا نتذكر أيام الزنزانة التي خرجنا منها منذ عدة ساعات. عندما أحضروني إلى المهجع كانت المعاملة جيدة ولم يضربوني أبدًا، والشباب أحضروهم أيضًا بمعاملة جيدة، ولكن بعضهم [مثل]: أبي جميل- غالبًا رحمه الله- (...)، هم عندما يعاملونك معاملة جيدة فهذا بالنسبة لهم أنهم يتفضلون عليك وأنت لا يجب عليك أن تتمدمد (ترتاح كثيرًا)، ولكن أبا جميل أعتقد أنه رفع رأسه أو نظر إليهم فتعرض للضرب، ولكن أحضروهم فيما بعد، ومرت على خير. 

عندما دخلنا إلى المهجع بقيت تقريبًا لمدة ساعة أجلس في مكان لا أعرف (...)، فالمهجع حولي كانت مساحته تقريبًا 40 مترًا، فمهاجع صيدنايا كبيرة، والعدد في صيدنايا قليل، دائمًا كانت الأعداد قليلة، يبدو أنه بعد استعصاء صيدنايا (بدأ استعصاء سجن صيدنايا في 5 تموز/ يوليو 2008 واستمر نحو 9 أشهر – المحرر) صاروا لا يكدسون أعدادًا كبيرة في المهاجع على عكس الأفرع الأمنية، ففي المهجع تجد مساحة كبيرة و[العدد] 25 أو 30 شخصًا، وعلى أيامنا كان العدد 25 شخصًا، وبعدها ازداد إلى 30 شخصًا، وأحيانًا يزداد وينقص وهم بحسب هذه الزيادة والنقصان تتصاعد عمليات القتل أو تقلّ، وعندما يُدخلون الطعام يضربون الناس ويقتلونهم، وأحيانًا عندما يُساق الناس إلى الإعدام يخفّ العدد. 

فذهبنا وسلمنا على بعضنا، في يومها حصل معي شيء وحتى الآن كلما أذكره يؤلمني رأسي، في يومها صار معي- وأستطيع الآن أن أتحدث عن الفصلان (غياب الوعي)- في ذلك اليوم فَصَلت دون أن يضربني أحد أو يعذبني، ويبدو أنني أُصبت بصدمة نفسية، وصار معي ذهول، وكان الشباب يتحدثون معي وأنا لا أستوعب، يتحدثون معي بشيء وأنهم يريدون مشاورتي في أمر أو في التوزيع، فنحن هناك في المهجع كانت توجد مجموعات الطعام، والشباب يقسمون أنفسهم إلى مجموعات، و[كانوا يريدون مشاورتي:] هل نكون في مجموعة واحدة أو نتوزع إلى المجموعات حتى لا يقولوا عنا إننا شوام (المقصود هنا متعصّبون لدمشق – المحرر)، لأنه كما نعرف أن الشوام هم الوحيدون الممنوعون من التجمع مع بعضهم، بينما كل محافظة كانت تجتمع مع بعضها، ولكن إذا الشوام اجتمعوا يتحدثون عليهم، [فكانوا يسألون]: "يا شباب، هل نجتمع كمجموعة واحدة أو نتفرق؟"، وأنا قلت لهم: "لا أستطيع التفكير، وماذا تريدون أنا جاهز، ولا تسألوني عن شيء، فأنا عقلي الآن متوقف".

احتاج الموضوع لعدة قرارات في هذا اليوم، وكان ينبغي عليّ الموافقة عليها واتخاذها، وخاصة أن المجموعة التي معي هي أصغر مني، وكانوا يستشيرونني، ولكنني قلت لهم: "فكروا عني، لا أستطيع التفكير الآن"، لدرجة أنه كان عندي أوراد يومية وكنت أقرأ القرآن، ولكن حتى الآيات لم أعد أستطيع تجميعها في عقلي، وأصبحت أشعر بأن الكلمات حرفيًا كلمة هنا وكلمة هناك، وماذا تعني هذه الكلمة وهذه الكلمة؟ وماذا يعني: "قل هو الله أحد"؟ وحتى مدلولات هذه الكلمات أي ربط الكلمة بمدلولها في الذهن أي، حتى لو كان بيت شعر أو مقولة وحتى كلمة "كيفك" ما هو مدلولها في العقل؟، وكأن شخصًا يقول لك: "How are you?" وأنت لا تعرف اللغة الإنجليزية، فالكلمة ليست غريبة على دماغي، ولكن ماذا تعني كلمة "كيف حالك؟".

كنت أشعر أن دماغي منفصل عن كل شيء، وكنت أشعر بالضجيج، وأرى الناس أمامي والحركة، ولكنني في ذهول، وبقيت على هذه الحالة ليومين أو 3، لا أستوعب، ويقولون لي: "جاء السجان"، وكنت أركض وأتجه نحو الجدار، ولكنني لا أستوعب ماذا يحصل أو ماذا سيحصل، وكنت أقول للشباب: "افعلوا ما تريدون، أطعموني أو لا تطعموني". كنت أعرف أنني يجب أن آكل، ولم أصل إلى حالة الفَصَلان الكامل لأنه أثناء الفصلان الكامل لا يحس الشخص بحاجاته؛ فلا يشعر بأنه جائع، أو أن عليه أن يدخل إلى الحمام فيبول على نفسه، ولكنني لم أصل إلى هذه المرحلة، وفي الوقت نفسه لا أستوعب ماذا يحصل، وعندما يأتي الطعام كنت آكل، وأدخل إلى الحمام، ولكنني مذهول ولا أعرف ماذا يحصل؟ هذه الحالة لم يتسبب بها التعذيب، وإنما الانتقال من هذا الجحيم الذي هو الزنزانات إلى المهجع الذي كان برأينا هو الجنة، وطبعًا هذا الكلام نسبي، وهو ليس جنة ولا أي شيء آخر. وبقيت على هذه الحالة 3 أيام، والشباب كانوا يدارونني كثيرًا، وفي النهار كنت أضع رأسي على فخذ أحدهم، ويقرأ عليّ [القرآن] حتى تجاوزت المرحلة تدريجيًا، وأصبح عقلي (...)، وكأن عقلي كان متوقفًا مثل الحاسوب عندما يعلّق (لا يستجيب)، كانت نفس الحالة فهو يعمل لكنه قد توقف عند لحظة واحدة؛ لأنني خرجت من الزنزانات بعد 5 شهور ورأيت الضوء. 

كنت أعرف أنني في صيدنايا وفي المهجع، وأن هناك سجانين مجرمين، وهذه الأمور الأساسية أنا أعيها، وأنا أعي أن هؤلاء الأشخاص هم أصدقائي، ولكن أكثر من ذلك كأن أتعرف على بقية الناس، وأنا طبيعتي اجتماعية، وأتعرف [على الآخرين] عادة، ولكن لم تكن توجد إمكانية حتى أتعرف على أحد، ولا أحد يتعرف عليّ، ولا أتحدث مع أحد؛ لأنني لا أستطيع أن أستوعب ولا أستطيع إضافة معلومة جديدة إلى عقلي إلا الموجودة عندي، وحتى الأشخاص اللصيقون بي سلبًا أو إيجابًا كنت أستطيع عدم نسيانهم وكنت أتذكرهم وأكون مركّزًا، الذين هم رفاقي وكذلك أعدائي الذين هم السجانون، فهؤلاء الأشخاص لصيقون بحياة الشخص وتفكيره، لا أنساهم، ولكن باقي الأمور والأفكار والأمور التي أحفظها والذكريات والمستقبل كل هذه الأمور أصبحت مشوشة. وأنا كما ذكرت: نحن كانت عندنا أوراد يومية ونقرأ القرآن وليس معنا مصحف، بل من ذاكرتنا، واستعادة كل هذه الأمور وحتى التفكير في المستقبل أو التفكير خارج السجن أو الخروج خارج السجن بأرواحنا هذا الموضوع اختلف في هذه الأيام الثلاثة، اختلف اختلافًا شديدًا، وبعد ذلك تماثلت للشفاء. 

هناك أمور يتذكرها الشخص بألم، عندما كنا نذهب إلى الزيارة دائمًا يسألونك سؤالًا: "من أين أنت؟"، وهذا السؤال في سورية هو سؤال طائفي، أي حتى لا أسألك: "ما هي طائفتك؟"، فهو سؤال طائفي ومناطقي وطبقي في الوقت نفسه، وحتى لا أسألك عن طائفتك أو وضعك الاجتماعي فأسالك: "من أين أنت؟"، وإذا قلت لي: "من الشام"، أسألك: "من أين من الشام؟"، وإذا قلت لي: "من المهاجرين أو المالكي أو المزة"، سأعرف أنك غني، وهذا الأمر متبع عند النظام وحتى أيام الخدمة الإلزامية كانوا يتبعونه معنا، فأنا حينها سأعرف أنك من الشام وأنك سني، وإذا قلت لي: "من اللاذقية أو من ريف اللاذقية"، فأنا سأعرف أنك علوي، وهذا الأمر معروف في سورية، فسؤال: "من أين أنت؟" هو مفتاح حتى تعرف كل شيء عن الشخص.

وفي صيدنايا كانوا يسألون هذا السؤال كثيرًا، [يسألونك]: "من أين أنت؟"، وهذا السؤال يسألونه كثيرًا في الزيارات، [فأقول]: "من الشام"، ويقول: "وماذا تفعل هنا؟ ومن أين من الشام؟"، فأقول: "من المنطقة الفلانية"، [ويسأل:] "وكم هو سعر منزلك؟"، وكان أحد الشباب واسمه زاهر يفهم قصدهم من هذه القصة، فلا يقول لهم إنه من المهاجرين، ويقول: "من المالكي"، والمالكي كما هو معروف هي أغنى منطقة، ويسأله [السجان:] "ماذا تعمل؟"، وهو كان لديه محل صغير في جرمانا، ولكنه يقول لهم: "عندي محل في شارع الحمراء"، فالسجانون يهسترون (عقولهم لا تتحمل سماعه) بمعنى أنك أنت غني وماذا تفعل هنا؟ فيضربونه بوحشية. وأنا سألوني هذا السؤال عدة مرات، ودائمًا هذا السؤال يتبعه [طلبهم:] "قل: برتقانة" (أي برتقالة – المحرر)، أو "قل بقرة"، والشامي يقول: "بأرة" أو "برتآنة" فيتعرض للضرب لأنه لا يقول برتقالة بالقاف، والبقرة يجب أن يلفظها بالقاف. ونحن كان الأمر يتسبب لدينا بردة فعل، وبالرغم من أن الأمر فيه عذاب وضرب كثير، [ولكننا نقول]: "برتآنة، بأرة"، ونتعمّد ذلك، وهو يعاود ضربك كثيرًا.  

هم دائمًا لديهم هذه المشكلة، فهذا الشامي وهذا الحلبي وهذا الحمصي، وهم لديهم مشكلة مع ابن الشام، ولديهم مشكلة مع الأغنياء، ولديهم مشكلة بالتأكيد مع السنّة بالتأكيد وقولًا واحدًا، ولديهم هذه المشكلة دائمًا، هذا عدا عن مشكلتهم مع الثورة، لديهم مشكله طبقية ومناطقية، ولديهم حقد عجيب، ينفّسون عنه، ففي سجون الأسد ينفسون عن كل أحقادهم، ولديهم مشكلة مع المتعلم، وكانوا يزيدون العذاب للمهندس أو الطبيب، وقد أحضروا إلى السجون عناصر معقدين مناطقيًا وطبقيًا وطائفيًا وحتى ثقافيًا. وأنا أذكر أنه يوجد ضابط في إحدى الزيارات، وهذا الأمر حصل أمامي، عندما انتهت الزيارة سأله [العسكري]: "ما هي تهمتك ولاك؟ هل أنت مدني أم عسكري؟"، قال له: "عسكري"، وقال له: "وما هي رتبتك"، فأجابه بصوت عال وفخر: "أنا ملازم أول منشق"، وقال [العسكري]: "وتقولها بفخر!"، فقال له: "نعم"، وبدأ يضربه بوحشية، ثم قال له: "سأجعلك (...)، هل تظن أنك ذا شأن إذا كنت ملازمًا أول؟"، وضربه بوحشية حتى أغمي عليه، ولا أعرف ماذا حصل له، أعتقد أنه مات.

عندما يرون ضابطًا يتفننون في إهانته؛ لأنهم عساكر، ولأنهم مجندون، ولأنهم صف ضباط، وكل النقص الذي عندهم يخرجوه في السجين، فهو [رتبته] صف ضابط من إحدى القرى من الساحل، ولديه مشكلة للأسف مع ابن المدينة، وإذا كنت ابن مدينة فإنه يريد الانتقام منك، أو هو فقير وأنت غني فإنه ينتقم منك أيضًا، أو هو جاهل وأنت متعلم فإنه ينتقم منك أيضًا، ولكن هذه الأمور أنت لست مسؤولًا عنها؛ فليس ذنبي أنني خُلقت في المدينة، وليس ذنبي أنني سني أو أنني متعلم وهو ليس متعلمًا، فهي ليست مشكلتي حتى ينتقم مني، ولكنه مع ذلك لا يوجد لديهم منطق وينتقمون بهذه الطريقة.  

  

عندما خرجنا كما سبق وتحدثت فإن للمهجع قوانينه وأنظمته، وجزء منها من أنظمة السجن نفسه، والجزء الثاني هو من الأنظمة التي يضعها السجناء حتى ينظموا حياتهم. وسجن صيدنايا كما ذكرت: بناء "المرسيدس" المبنى الأحمر على شكل إشارة "مرسيدس" وله 3 أذرع، وكل ذراع فيه 3 طوابق على سطح الأرض، وكل طابق فيه جناحان، وكل جناح نظريًا يوجد فيه 10مهاجع، ولكن عمليًا أحيانًا تكون أقل من 10، فبقية المهاجع أحيانًا تكون غرفًا إدارية أو غرف خدمات، بالتالي عمليًا توجد أجنحة فيها 10مهاجع، وتوجد أجنحة فيها 8 مهاجع. نحن كنا في الطابق الأول في الذراع ألف يمين حيث هناك أ ب ج وهناك جناح يمين وجناح يسار، طبعًا تحت الذراع ألف توجد الزنزانات ألف أيضًا، وتحت الذراع باء توجد زنزانات باء، وتحت الذراع جيم يوجد المطبخ وغرف خدمات لإدارة السجن، أي أمور خدمية، وطبعًا هذه الخريطة عرفتها عندما التقيت سجناء صيدنايا ما قبل الثورة في الجوية (فرع التحقيق في المخابرات الجوية – المحرر)، فحدثوني عن هذه الخريطة كلها، وأنا عرفت أين كنت. 

الزنزانات ألف التي كنا فيها غالبًا كان عددها 35 زنزانة، والزنزانات باء تقريبًا 45 زنزانة، والمجموع كان 75 زنزانة، والزنزانات ألف كان لها طاقة علوية وسفلية، والطاقة السفلية يدخلون منها الطعام، والعلوية من أجل المراقبة، بينما الزنزانات باء مخنوقة أكثر، لا يوجد فيها حتى (...)، ففي الزنزانات ألف توجد في السقف مسافة صغيرة يُقال لها بالعامية: المندلون (نافذة صغيرة - المحرر) يمكنك أن تطل من خلالها إلى الخارج، أي إذا كان أحدهم يقف خارجًا أمام باب السجن يجد شباكًا صغيرًا تحت قدميه، وهذا يطل على الزنزانات، بينما الزنزانات الأخرى لا يوجد فيها، وهي معتمة بشكل كامل وبابها يُفتح بشكل كامل عندما يُدخلون الطعام، وهناك يتعذبون بشكل أكبر، وكلما يُدخلون الطعام لهم (للسجناء – المحرر) يتعرض جميعهم للضرب. 

 وتوجد أيضًا زنزانات أخرى لم أرَها وسمعت عنها من الشباب، وهي أصغر من هذه الزنزانات، وإذا كانت الزنزانات ألف وباء مترين مربع فإن الزنزانات الأخرى كانت على حجم الشخص، ويوجد أيضًا غرفة العزل وهي موجودة في الزنزانات ألف، وهي غرفة كبيرة ومهجع لا يوجد فيه أي وسائل للحياة، وهو معزول ومعتم بشكل كامل، وينسون الناس فيها، ويرمون لهم فتات الطعام؛ حتى يبقوا على قيد الحياة، ولكن الناس يُنسون فيه. وبعد أن خرجت من سجن [صيدنايا] وخلال التعاطي مع ملف المعتقلين وجدنا أن هناك أشخاصًا من المفقودين والمختفين اليوم في سجن صيدنايا ولا أحد يعرف مكانهم، والذين يقول الناس عنهم إنهم ميتون، هناك احتمال أن يكونوا موجودين في هذا المكان؛ لأن العزل في هذا المكان قد يتجاوز سنوات، وقد يكون على سنوات وليس يومًا أو يومين أو شهرًا أو شهرين، فمن الممكن أن يكون هناك أشخاص معزولون في هذا المكان. 

نحن كنا في [الزنزانات] ألف، وعمرو (عمرو خلف – المحرر) جاء إلى الباء، ونحن وعمرو نفس القضية، ونحن سلميون في النهاية، وكانت تهمتنا أننا سلميون ولكن كان لنا طرف يدخل مع العسكرة قليلًا، ولكننا سلميون، وهناك أشخاص وضعوهم في الألف وأشخاص في الباء حسب الاتساع، وهي زنزانات في النهاية وفيها نفس الإجرام ونفس الوحشية. 

في المهاجع عندما يذهب الشخص إلى هناك ينبهه الشباب مباشرةً بأنه ممنوع عليك الاقتراب من الباب، فالاقتراب من الباب محرّم، وهو كالذي يقترب من حافة جهنم وخاصةً في الليل، ففي الليل - على عكس الزنزانات - المهاجع لا يتم إطفاء الإنارة فيها، وممر الجناح معتم، وبالتالي ظلّ المهجع يعكس على الممر، وإذا اقتربت من الباب سوف يظهر خيالك في الممر، أي إذا كان المهجع مضيئًا والخارج معتمًا فأنت إذا اقتربت من الباب سوف يظهر ظلك في الضوء الذي يمتد للخارج، وهو (أي السجّان – المحرر) من بداية الجناح سوف يرى الظل، ويقول: "في هذا المهجع هناك من اقترب من الباب"، وسوف يأتي في اليوم الثاني ويحقق معهم بوحشية حتى يعرف الشخص الذي اقترب من الباب، فهذه القضية محرمة، وفي النهار إذا اقتربت من الباب لن ينتبه لك [السجان]؛ لأن الإنارة والضوء في كل مكان ولن يظهر ظلك في النهار. 

من الأمور الأخرى أنه يجب أن تضع نفسك ضمن الدور، ومنها أنه عليك أن تنتظم ضمن أدوار أخرى منها دور مسح القصعات، والقصعات عندما تأتي وهي عبارة عن قصعتين، ويُوزع الطعام، هناك دور للقصعة، والدور هو لعق القصعة، وينتقل هذا الدور وكل يوم عند شخص وعمله هو مسحها، فيأخذها وربما يفتّ فيها خبزًا حتى تصبح نظيفة من الدهون إذا كان فيها دهونًا، وأحيانًا تحصل مشاجرة من أجل ذلك، فهذا يقول: "دوري"، والآخر يقول: "إنه دوري"، وذلك من أجل لعقها، هذا فيما يخص الأدوار.  

في صيدنايا بسبب الجوع كان عندنا في الزنزانات والمهاجع، ولكن في الزنزانات أكثر، كان عندنا بعد الغداء- فاتني أن أذكرها في المرة الماضية- برنامج يومي ثقافي، وتوجد حصة ترفيهية بعد الغداء اسمها: "فقرة رأيت في منامي"، وكل شخص من السجناء يتحدث فيها ويذكر الحلم الذي رآه في منامه حتى يخرج (يخرج من المعتقل – المحرر)، وهذا الحلم يتأوّل بأنه سيخرج، فسجناء النظام السوري بشكل عام قبل الثورة وبعدها يتعلمون مهارة تأويل الأحلام، فموضوع المنامات هناك ثقافة تنتقل أو علم ينتقل عبر المهاجع وعبر السجون، ينقله المساجين بين بعضهم، وهذا ربما يكون عمره من عمر السجون السورية، والذي هو علم الأمل، وكيف أنت تصنع الأمل من خلال تأويل المنامات، فتجد أن هناك ثوابت في هذا العلم، مثلًا: إذا رأيت نفسك في جامع فأنت في السجن، وإذا رأيت نفسك في المدرسة فأنت في السجن، وإذا رأيت نفسك خرجت من الجامع فأنت خرجت من السجن، وإذا رأيت نفسك خرجت من المدرسة فأنت خرجت من السجن، وإذا رأيت نفسك انتقلت من مدرسة إلى أخرى فأنت سوف تنتقل، وأحيانًا هذه الأمور تتحقق، فتحلم بأنك تنتقل من مدرسة إلى مدرسة وبعد عدة أيام يأخذونك - وهذا حقيقي وليس مبالغة - من فرع إلى آخر، وتتحقق الكثير من الأمور.

وفي بعض الأحيان تكون العديد منها (من التأويلات – المحرر) غير صحيحة، ولكنها تجعلك تعيش بالأمل وتفرح، وخاصة إذا كانت متوائمة مع أخبار قادمة من الخارج بأن هناك عفوًا أو غيره، فالناس هنا فعلًا يعيشون بسعادة، والحلم يعطيك مخدرًا، فتنسى كل آلامك وتعيش وتفكر به نهارًا كاملًا، كما لو أن شخصًا أعطاك هدية أو مكافأة وأنت تتفرج عليها طوال النهار وتتأملها. 

الفقرات الثانية تحدثت عنها في المرة الماضية، وهذا الكلام في الزنزانات، فنحن نبدأ صباحنا بمُدارسة القرآن والأذكار والأوراد. وفي الزنزانة أنا أحد الأشخاص الذين رغم ضيق الزنزانة الشديد -فالناس يتكدسون فوق بعضهم- ولكن الزاوية التي أجلس فيها والتي هي بحجم قطعة البلاط، كنت أقف عليها، وطبعًا حولي كل الشباب ولا أستطيع حتى أن أتحرك خطوة واحدة، ولكنني أمارس فيها الرياضة، وأمارس تمرينات الجذع والمراوحة في المكان والوثب الأمامي والخلفي، ولكن ليس بشكل كامل، فلا أستطيع أن أكبّر فتحة الرجل، وما يقولون له في الرياضة أو في الجيش: سلسلة الوثب في المكان، وفيه فتح ضم وقفز في نفس المكان، وفتح ضم وأمام خلف وتمرين رباعي، وفيه نحرك اليدين والقدمين ولكن لا أفتح رجلي بشكل كامل؛ حتى لا أصيب الشباب. وكنت أقوم بهذه التدريبات وتقريبًا غالب الشباب يقومون بها، وهذا الشيء جعلنا نخرج قليلًا (...)، فنحن نمارس الرياضة داخل الزنزانة، ونحرك جسمنا قليلًا، وخاصة كنا نشدد الرياضة قبل يوم الثلاثاء، فقد كنا نحسب حسابًا أننا إذا خرجنا إلى الزيارة حتى لا نتبهدل (نتعرض للإهانات)؛ لأنه يجب أن تمشي بسرعتهم (بسرعة السجّانين – المحرر) وبالتأكيد سوف تقع؛ لأنك لا تتحرك، فكي تحرك جسمك قليلًا، ويكون جسمك جاهزًا وتكون العضلات جاهزة قليلًا، وطبعًا كانت الرياضة فيها صعوبة شديدة لأن العضلات ضامرة. 

عندما خرجنا إلى المهجع كان عندنا نفس هذا البرنامج الصباحي، وهو لعب الرياضة، وفي فترة الظهر أيضًا في الزنزانات كنا نقرأ، وكانت هناك أمور في الزنزانات والمهاجع، أو في الزنزانات بشكل أساسي، وهو أجمل صوت يمكن للإنسان أن يسمعه الشخص في حياته، وهو صوت ربطات الخبز عندما تُوضع على أبواب الزنزانات، وهنا نعرف أنه جاء الطعام، وهذا أجمل صوت في الحقيقة، عندما تسمع صوت ربطة الخبز وقد أُلقيت، ولا يمكن أن تنساه، وأخطر صوت يسمعه الشخص في حياته هو صوت مغلاق باب الزنزانة يُفتح حتى يقول له السجان بعد قليل: "مدّ يديك" حتى تتعرض للضرب. 

وبعد ذلك كنا نجلس وتحصل نقاشات فلسفية، ثم تكون هناك محاضرة عن التاريخ، وبعد ذلك يدور نقاش عن تاريخ سورية، وبعد ذلك نقاش عن الوضع السياسي والثورة والمشاكل، وبعد ذلك يكون هناك ما يستغرق نصف نهار أو أقل من نصفه بقليل وهو الحديث عن الطبخ وعن الأكلات والطبخات وكيف تُحضر؛ لأننا كنا نحلم بها، فنتخيل كيف تُطبخ، وهذه الحالات كانت تحصل في المهاجع.

وهناك فقرة في النهار وهي الجلوس وتفلية القمل من الثياب، وهذا على حد سواء في الأعلى والأسفل في المهاجع والزنزانات كان يحصل، ولكن في الفترة التي يغلقون فيها باب الجناح بعد الظهر يصبح الأشخاص المحشورون (...)، لأن الحالة العامة أنك عند صلاة الصبح تستيقظ وترفع البطانيات وتطويها، وفي أول يوم يعلمك الشباب كيف تطوي البطانيات؛ لأن هناك أصولًا لطي البطانيات يعني مثل طي العسكريين، وهذه الأمور موجودة في الخدمة العسكرية وهي أن تطوي البطانية بطريقة معينة ولها شكل معين، والسجان عندما تأتي أول دفعة إلى هذا السجن أو المهجع يعلمهم طريقة الطي، وعليهم طبعًا تعلّمها من أول مرة وإذا لم يعرف فإنه سوف يتعرض للضرب، وهكذا الشباب يعلمون بعضهم، فيسلمك الشباب البطانيات ويعلمونك كيف تطويها، وتضعها في مكانها، وبعد ذلك تجلس على الأرض طوال النهار على البلاط البارد وممنوع الجلوس على البطانيات، وفي الليل عندما يأتي أمر: "نيام الكل يا عرصات"، يسحب كل شخص بطانيته، ويمدها، ويكون قد وضع عليها علامة، ويمد بطانيتين أو 3 وينام عليها بجانب بعضها.   

خلال النهار الشباب يشغلون أنفسهم بأحاديث الطبخ والأكل، ويخترعون أكلات ويطبقونها، ففي الكثير من الأحيان تحت البطانية وأنا بردان، وكانت قد جاءت فترة صار فيها تحسين معاملة وسمحوا بـ (...)، وفترات تحسين المعاملة كانت تحصل كل فترة، فتتحسن المعاملة ثم تسوء، وحينها سمحوا للناس بالجلوس على البطانيات في النهار، وعندما أكون بردانًا وبعيدًا عن البطانيات، أعود وأجلس تحت البطانية وأقول لأحد الشباب: "لقد خطرت في ذهني هذه الطبخة، نحضّرها بهذا الشكل، وستكون شيئًا رهيبًا، وسأضيف إليها كذا وكذا"، فنخترع طبخات واختراعات ونحن نتلمظ طبعًا.   

 ويصل الشخص إلى مرحلة أنه عندما يستيقظ في الصباح فيحسّ (...)، أنا مثلًا: أحب الشاكرية (لحم مطبوخ باللبن)، وعندما أستيقظ في الصباح أحس أنني أكلت "شاكرية" وأحس بطعمتها في فمي بسبب كثرة تفكيري بها، وشخص آخر من شباب الساحل واللاذقية وبانياس يستيقظ ويقول: "أكلت اليوم سلطان إبراهيم أو زبيدي (أطباق سمك) أو دجاج أو أي نوع من السمك"، فيستيقظون ويشعرون وكأنهم قد أكلوا بالفعل، ولكن ينقصهم أنهم جائعون، ويحسون بطعم الطعام في فمهم بسبب كثرة تفكيرهم به.

معلومات الشهادة

تاريخ المقابلة

2020/02/29

الموضوع الرئیس

معتقلات الأسد

كود الشهادة

SMI/OH/131-44/

رقم المقطع

44

أجرى المقابلة

سهير الأتاسي

مكان المقابلة

اسطنبول

التصنيف

مدني

المجال الزمني

2013

المنطقة الجغرافية

محافظة ريف دمشق-صيدنايا

شخصيات وردت في الشهادة

لايوجد معلومات حالية

كيانات وردت في الشهادة

سجن صيدنايا العسكري

سجن صيدنايا العسكري

الشهادات المرتبطة