الواقع الطبي، تصعيد الحملة الأخيرة على الغوطة، وحركة الضفادع
صيغة الشهادة:
مدة المقطع: 00:48:01
أنهينا عام 2017 بكل تفصيلاته، حيث كانت هناك القيادة الثورية في دمشق وريفها، و[تحدثنا] كيف هيكلت الجسم القضائي وجسم الشرطة، وكيف كانت هناك لائحة ناظمة لعمل جهاز الشرطة، وكيف كان هناك إصرار في قيادة الشرطة الثلاثية على أن يكون على رأسها ضابط، وفي مجلس قيادة الشرطة حقوقي محامي، وكذلك إداري ناجح يمثّل استمرار من القيادة السابقة إلى القيادة الحالية.
كان هناك تسارع في الأحداث في الغوطة وتسارع في التصعيد، سواءٌ في معركة إدارة المركبات التي بدأت تتهاوى (بدأت المعركة في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 – المحرر)، وبدأت تتراجع، وكان هاجسنا في ذلك الوقت أنه إذا سقطت حرستا ستنشطر الغوطة، فحرستا ملاصقة تمامًا لمسرابا، وتعني أننا ثبتنا شطرين للغوطة؛ دوما وما حولها، ويكون النظام قد استطاع أن يشطرها إلى نصفين، ومنطقة مسرابا وباقي قطاع الغوطة قطاع آخر، وهذا الكلام كان يشكل هاجسًا بالنسبة لنا.
انتهت الـ 2017 على معركة إدارة [المركبات] ومعركة جوبر التي فتحها النظام [بدأت العملية العسكرية للنظام في 20 حزيران/ يونيو 2017 – المحرر)، وكان هناك تصعيد مستمر، وكانت هناك سلسلة أعمال بطولية في المقاومة التي كانوا يسمونها الكمائن، وذلك بطريقة حرب الأنفاق، واتصل تصعيد جوبر مع الحملة الأخيرة في شهر شباط/ فبراير [2018]، وبدأ التصعيد غير المسبوق على الغوطة. أنهينا العام 2017، ودخلنا في العام 2018، ومع بداية الحملة كان وضع الغوطة مأساويًا على الصعيد المعيشي والغذائي والطبي وفي مختلف المناحي، وما تمّ إنجازه من خطة طوارئ مركزية هو الذي كنا نعتمد عليه، ولم يعد بالإمكان إنجاز أكثر من ذلك.
بدأ التصعيد بغارات الطيران التي لم تكن تتوقف في الليل ولا في النهار، وصوت طيران الاستطلاع (الزنانة) لم يكن يغيب عن الأجواء ليلًا ونهارًا، وراجمات الصواريخ كانت ترشق الغوطة وأحياء الغوطة. كان هناك تدمير ممنهج للغوطة، وعاشت الغوطة خلال تلك الحملة تحت الأرض، في الملاجئ والأنفاق والمستشفيات، وكنا نعمل فوق طاقتنا. في الحقيقة أي هدف متحرك على سطح الأرض كان يُقصف، وكنا نضطر إلى أن نتحرك، فنتعمّد الخروج ليلًا وبدون إنارة، وكانت الغوطة معتمة، ولا يخلو ذلك من خطورة. وكنت أضطر للتنقل بين مستشفى الكهف ومستشفى إحياء النفس في زملكا، وفي كثير من الأحيان كنت أقطع تلك المسافة التي تبلغ كيلو مترين، أقطعها بسيارة الإسعاف التي لم يبقَ منها شيء حتى الزجاج، كانت هيكلًا فقط. وفي الليل كنا نمشي في العتمة، وفي الكثير من الأحيان أثناء تنقلنا، كانت تسبقنا القذائف 100 متر، أو تقصر عنا 100 متر. وفي كثير من الأيام كانوا يحتاجونني في مكان فأضطر لأن أنتقل، ويمنعونني، فأقول لهم تلك العبارة التي كنت أتمسك بها: "إن الله سيحميني، وسأصل، لا تقلقوا. ليس لأنني جيد، ولكن لأن هناك أحدًا بحاجتي، فالله سيحميني في الطريق حتى أصل".
في مستشفى الكهف كنا نعمل بواقع حصار وتقنين، وقد بُني فيه مخزون استراتيجي يستطيع أن يمدنا لمدة 6 شهور طبعًا في واقع التقنين. [إضافة إلى] حجم الإصابات المرعبة التي كنا نراها، فأنا جراح منذ أكثر من 25 سنة، لم أرَ الإصابات التي رأيتها في التصعيد الأخير، فمنظر الأشلاء والبتور، وأن يكون المصاب محمولًا وهو يرى رئته قد خرجت من مكانها، وأمعاءه كذلك خرجت من مكانها، وفُقد طرفه، وعظمه خرج من مكانه، والحقيقة أنها كانت مواقف صعبة جدًا وقاسية.
وأنا مع كل خبرتي في الجراحة كنت أقف، وأقول: "يا لله! من أين أبدأ؟!"، فالذي فقد جدار الصدر ماذا سأفعل له؟!، لا يوجد لديه جدار صدر، وإنما توجد رئة فقط تنتفخ مثل البالون، وهناك جدار بطن قد فُقد والأمعاء خرجت من مكانها للخارج. الحقيقة كانت مواقف مرعبة، واضطررنا أن نعمل باختصاصنا وخارج اختصاصنا، فأنا جراح عام عملت في جراحة الصدر، وعملنا في إصابات الأوعية والإصابات البولية، حيث كان علينا أن نحلّ مشاكلنا في مكاننا، حيث يتعذر نقل المرضى، ويتعذر نقل الكوادر. ومن يستطيع من الكوادر أن يتنقل، وأنا كنت منهم، كنت أتنقل بتهور، ولكن كان يقيني بأن الله سيحميني؛ لأن هناك أحدًا بحاجتي، وكنت حينها أدعو ربي وأقول: "يا رب! إذا متّ فهيئ لي من يراني ويدفنني، فلا أُترك في الخارج، وأموت بجسد كامل ولا أموت أشلاء"، هذه كانت دعوة في الحقيقة لا تغادرنا.
جلس الأهالي في الملاجئ، وأثناء الحملة استخدم [النظام السلاح] الكيماوي والكلور ضد الملاجئ (في 7 نيسان/ أبريل 2018 – المحرر)، وجاءتنا في ليلة إصابات مرعبة واختناق بالكلور. واستخدامات الكلور لم تنقطع وكانت متقطّعة، ولكن آخر استخدام في آذار عام 2018 كان أثناء الحملة. وعندما كانت تخرج الغارة وتقصف، كنت أرى معالم الطريق قد تغيرت أثناء عودتي، فنحن أتينا من هنا، ولكن الآن تغير شكل [المنطقة] بعد أن عدت من القيام بعملية جراحية، وعاينت المرضى.
كل الغوطة عاشت تحت الأرض في ظلّ الجوع والبرد وعدم الأمان، حتى أصبح الأهالي يأتون ليلوذوا بتحصينات المستشفى والأنفاق التي وُجدت لخدمة التنقل تحت الأرض، سواءٌ كان تنقلًا أو نقل مصابين. كان هناك جوع، والإمكانات المتوفرة هي تلك التي تُقدم، ولكن لم تكن هناك إمكانية ليخرج الشخص [ويحصّلها]، على سبيل المثال إذا كان في منزلي كيلو طحين فإنني لا أستطيع أن أخرج لجلبه حتى أخبزه وآكل منه، ليس فقط بسبب ضغط العمل، ولكن لا يوجد أمان في ظل هذا القصف.
الحقيقة أنها كانت أيامًا مرعبة وحياة بؤس، وكنت أضطر أن أتنقل في النفق الذي يصل مستشفى الكهف بمستشفيين آخرين، طوله تقريبًا كيلو متر واحد، وكان متصلًا بمستشفى "إنقاذ روح" ومستشفى الأنوار، وأنشأنا له بعد ذلك تفريعة إلى مقر القيادة الثورية في حال اضطررنا أن نذهب إلى هناك. ولم يكن لدي أي وقت حتى أمارس أي مهام؛ لأننا في ذلك الوقت استُهلكنا، حيث كنا نمضي 24 ساعة في المستشفى في العمليات، وكنا نستطيع أن نسرق ساعة أو ساعتين للنوم. في الحقيقة أصبحت وجوهنا شاحبة، وعيوننا حولها هالات سوداء كنت تشاهدينها عند جميع الناس، وكذلك العصبية، فلقد كانت حالة مأساوية. كنت عندما أضطر للتنقل في النفق، أرى في هذا النفق الذي عرضه متر وارتفاعه متران، أمّاً تحتضن ولدين، وهي تجلس جانبًا، فتلك هي المنطقة الآمنة، تخيلي مثلًا أن أمًا معها ولدين، تجلس في النفق تحت الأرض، وعندما يصبح هناك إطعام ويطعمون المرضى في المستشفى، كانوا يطعمون هؤلاء الناس، كان واقعًا مأساويًا جدًا في الحقيقة.
أذكر حينها أن الاتصالات انهالت علينا من وسائل الإعلام العالمية؛ ليعرفوا الحالة الإنسانية في الغوطة، ولم يكن لدينا الوقت لنتكلم من جهة، وكان الأمر فوق الوصف من جهة أخرى. أذكر عبارة قلتها في إحدى المرات حيث كانت مذيعة من الـ "BBC " تسألني: "هل بإمكانك أن تصف لنا الوضع في الغوطة؟"، فقلت لها: "أنا آسف، أنا مشغول جدًا، ولدينا إصابات كثيرة، ولكن أستطيع أن أقول لك أنها بروفا (تجربة تمثيلية) بالذخيرة الحية عن أهوال يوم القيامة. هكذا أجبت باختصار، فصُدمت، وكان جوابي صادمًا جدًا، ودعت لنا أن يحمينا الله، فقد كان واقعًا مأساويًا.
على الصعيد العسكري أثناء الحملة الأخيرة، كان هناك تراجع في معركة الإدارة (معركة إدارة المركبات – المحرر)، أي بداية انهيار في حرستا، وخلال يوم انسحب "جيش الإسلام" من منطقة أوتايا الأشعري إلى مسرابا (وذلك في 3 آذار/ مارس 2018 – المحرر)، وعندما انسحب "جيش الإسلام" دخل جيش النظام، وكانت الحواجز بين "فيلق الرحمن" و"جيش الإسلام" عبارة عن حواجز أمنية، فالتحصين في الأساس كان ضد مناطق النظام. وعندما حدث الانسحاب من القطاع الشرقي ومن الغوطة ومن مسرابا، دخل جيش النظام، فأصبح جيش النظام في ظهرنا (خلفنا) في الغوطة، وانشطرت الغوطة إلى نصفين جغرافيًا، يفصل بينهما خط من حرستا مسرابا الأشعري أوتايا وبقايا منطقة المرج، فكل هذه المناطق أصبحت بيد النظام، وهنا قطاع الغوطة جبهته مع جوبر وزملكا وظهره مكشوف للنظام، وهناك دوما جبهتها مع النظام، وكانت مطوقة أيضًا بقوات النظام، وهكذا أصبح الوضع العسكري صعبًا.
وفي ظلّ هذا الوضع، طبعًا تمّ هذا الانسحاب خلال 24 ساعة، خُلقت لدينا إشارات استفهام كبيرة: كيف تمّ الانسحاب؟ وهل يمكن استدراك شيء؟ وطبعًا الناس كانت متشتّتة، وفي الوقت ذاته كان الجهد العسكري على الجبهة مع النظام جهدًا كبيرًا. وفي وسط هذه الأجواء لا يمكن تدارك التحصين، ولا يمكن استدراك إرسال أشخاص للمرابطة، فالنظام عندما دخل إلى هذه المناطق دخل بالعتاد الثقيل، ودخل بالدبابات، وأخذ منطقة الأشعري وافتريس على أبواب جسرين.
وهنا بدأت "حركة الضفادع"، هكذا كنا نسميها اصطلاحًا، وهي بدأت بدعوات من الأهالي [قائلين]: "خلصونا"، فالجيش سيدخل، والمنطقة ستسقط، وجيش النظام بدأ يتقدم علينا من ظهرنا، والقصف لا يتوقف، والجوع والفزع والعوز الطبي والغذائي أنهك الناس. وبدأ يظهر نفس السيناريو الذي يتبعه الروس في كل حملاتهم لتصفية المناطق، حيث [قالوا]: "سنفتح ممرًا آمنًا من حمورية"، فخرجت أول مظاهرة في حمورية تدعو إلى وقف إطلاق النار، وأذكر أنه كان من بين الشعارات: " ما عاد بدنا حرية.. بدنا وحدة وطنية"، تلك كانت خلايا النظام، وعندما بدأت تهتف، فإنها هتفت هذا الهتاف.
جميع تلك الأحداث وقعت في شهر آذار/ مارس [2018] وفي الحملة الأخيرة، بعد أن كانت الحملة مستمرة في الضغط منذ شهر، وبعد أن حصل الانسحاب وسقوط المناطق الشرقية في الغوطة وإطباق النظام [عليها]، فقد أصبحت الغوطة بين فكّي كماشة: المناطق التي انسحب منها "جيش الإسلام" دخلها النظام بـ [العتاد] الثقيل، وكذلك الحرب على خطوط التماس في جوبر وزملكا وعين ترما، وفي الوقت ذاته الطيران والراجمات التي لا تتوقف ليلًا ونهارًا.
وهنا بدأت الدعوات، وطبعًا النظام له خلايا، فبدأ يُقال: "نريد طريقة حتى نوقف الحرب"، وهنا بدأ نشاط الشيخ بسام ضفدع الذي كان في كفربطنا، وهو في الأساس ومنذ بدايات الثورة لم يكن مناصرًا لها، وإنما بقي تحت الحصار، وجلس جانبًا، ويبدو أنه كان مهيَّئًا لهذه اللحظات. ومع بدايات آذار/ مارس، ومع بدايات اشتداد المعاناة، حاول أن يلتقي بقائد "فيلق الرحمن" وقائد مجلس القيادة [الثورية في دمشق وريفها] وقائد الفرقة المسؤولة عن قطاع منطقتنا، وأنا كابن بلد كنت عضو مجلس قيادة، فحاول أن يرسل لي أخبارًا بأنه يريد رؤيتي بشكل ضروري، وكنت عندما أخرج أجد شبابًا يقولون لي: "الشيخ يريدك"، وبعد ذلك قالوا لي: "الشيخ مريض، ويريد أن يراك". ذهبت، وأنا أعرف أنه يحمل مشروعًا، وفي ذلك الوقت كانت قد خرجت مظاهرة، وهتفوا فيها قائلين: "نريد إيقاف الحرب، ولم نعد نريد الحرية"، ورُفع في إحدى المظاهرات علم النظام.
بدأت تلك الشرارة في حمورية، وحدثت في كفربطنا، وحدثت في سقبا، وحدثت في مناطق متعددة، ولكن كانت الشرارة الأولى عندما فتح الروس المعبر وقالوا: "إن طريق الذين يذهبون باتجاه مخيمات إيواء النظام هو طريق آمن، ولا نقصفه"، فبدأت الشرارة الأولى لحركة دعاة المصالحة، وحينها لم يكونوا قد سموهم "الضفادع"، وإنما أخذوا اسم الضفادع في ذلك اليوم الذي دخل فيه بسام ضفدع إلى الموضوع.
بالتوازي مع تلك الخلايا التابعة للنظام، والمزروعة لدعاة المصالحة، والتي بدأت بشكل دعوات من مجموعة أو مجموعتين، فمن هنا خرج 20 شخصًا ومن هناك خرج 20 شخصًا، نحن كان خيارنا الصمود والثبات ووحدة الصف، وبالنسبة لنا أهم شيء حماية المدنيين والثبات على الجبهات، بمعنى منع تقدم النظام. الأهالي كانوا يعانون الأمرّين، وعاشت الغوطة كلها تحت الأرض خلال تلك الحملة، ونحن كان قرارنا الثبات والصمود واستدراك المناطق التي انسحب منها "جيش الإسلام"، ودخلها النظام في شرقي الغوطة. وهنا بدأت تتنامى وتتوضح هوية حركات الاحتجاج [التي تقول] "إننا نريد فقط أن تتوقف الحرب".
أرسل لي بسام ضفدع عدة أخبار، وذهبت لرؤيته. جلسنا، وقال لي: "إلى أين ترى الأمور ذاهبة؟"، فقلت له: "الأمور صعبة، ولكن خيارنا الثبات والصمود"، قال لي: "ولكن الناس تعبوا جدًا، ويعانون"، قلت له: "وماذا أمامنا غير ذلك؟!"، فقال: "هل تعتقد أننا نحن فقط في الغوطة من يهمنا الصمود والثبات؟ يعني أهلنا مثلًا الموجودون في مناطق النظام، أليس من الممكن أن يكون لهم دور؟"، قلت له: "جيد جدًا، أي شخص لديه القدرة على أن يوقف هذه الهجمة، أو يوقف الطيارة التي نسمعها أنا وأنت، فهذا الأمر لا يحتاج مشورة أحد. ولكن انظر يا شيخ، الغوطة قرارها واحد، وغير مسموح أبدًا لأي منطقة أن تأتي وتتحدث بخصوصيتها، بمعنى أن [تقول:] نحن كبلدة. فكيف لبلدة أن تصالح وتُدخل النظام حتى يحتل بلدة ثانية؟! الغوطة كلها قرارها واحد، والقرار لا يملكه شخص، وإنما هو جماعي. وإذا كنت تتحدث معي بصفتي، فإنني أقول لك: أنا نفسي لا أملك قرارًا، فالقرار جماعي، والغوطة قرارها جماعي. الغوطة لديها جيشها الحر ولديها ناسها وفعالياتها وقياداتها التي يكون بها القرار جماعيًا، وممنوع انهيار أي منطقة". فقال: "نحن لا نقول ذلك، ولكن هل من الممكن - بالتعاون مع الناس في الداخل - أن نطلق شيئًا؟"، قلت له: "نحن خيارنا الثبات، وإذا أردت أن تطلق شيئًا، باسم ماذا؟"، قال: "كمبادرة أهلية"، قلت له: "جيد جدًا، تعال حتى نتفق على هذا الشيء الذي تريدون أن تطلقوه، ولكن يا ترى هل لديهم قدرة على أن يطلقوا شيئًا هؤلاء الناس في مناطق النظام؟!"؛ لأنني أذكر حينها أنه قال لي عبارة: "ناسنا وأسيادنا"، وكان يعني بذلك أن لديه لقاءات مع المشايخ في مناطق النظام والأهالي من الغوطة الموجودون في مناطق النظام.
قلت له: "دعنا نتفق، إذا قلت لي: إن الأمر هو أهلي، فأنا أقول لك: دعنا نتفق على الأسس. وإذا كنت تريد أن تقول لي: إنك تريد شيئًا رسميًا نقوله للنظام (...)"، فقال: "لأنه على ما يبدو أن الدولة ستدخل"، قلت: "ليست الدولة، وإنما اسمه النظام"، وكان هذا أول مصطلح بدأ [يُقال]. قال لي: "يا دكتور، ألا ترى كيف أن سورية انهارت"، وكانت حينها الأخبار تتحدث عن تركيا ومعركة غصن الزيتون، و[كانوا يقولون]: "إنهم سيحتلون عفرين، وهذه المناطق". قلت له: "يا شيخ، أنت الذي يهمك هو أن توقف هذه الطيارة التي تقتلنا هنا، أم أنك مهتم لأمر 10 كم في عفرين؟! ثم هل نسيت جيش الميليشيا الطائفية التي احتلت الشام (دمشق)، ونسيت الروسي؟!".
بدأ النقاش بيننا يصبح سجالًا، فقلت له: "أنت الآن في وسط الحملة تريد أن تحل أزمة تحرير التراب السوري من الاحتلال التركي؟ هل هذا هو هاجسك؟! بينما أنا هاجسي الأول هو أن أوقف بالدرجة الأولى القتل عن الأهل والناس؟! وها أنت تقول لي إن الناس تعبوا، ولم يعودوا يستطيعون أن يتحملوا". وأضفت: "إذا أردت أن تطلق مبادرة أهلية، فأنا سأعطيك رؤوس أقلام نتفق عليها"، فقال: "مثل ماذا؟"، قلت له: "مثلًا: وقف إطلاق النار"، فقال: "جيد"، قلت له: "لأننا لسنا نحن الذين نرسل الطائرة لتقصف في دمشق، ولسنا نحن الذين لدينا راجمة صواريخ تهدم الأحياء في دمشق. وقف إطلاق النار هو خطوة أولى جيدة"، قال: "جيد".
قلت له: "بخصوص فكرتك التي تحدثت عنها، [فلنقل] دعوة جميع الجيوش الأجنبية للانسحاب من سورية"، وهنا تلعثم، فجميع الجيوش تعني أيضًا الروسي والإيراني. وقلت له: "ثالثًا: كل من قتل سوريًا فهو مجرم بحق الشعب السوري، وكل من أوغل بالدم السوري أكثر هو عدو أكثر. فصنّف لي الاحتلالات التي تقتل الشعب السوري، والقوى المتصارعة من منها التي تقتل؟ فالناس الذين يموتون تحت الردم لسنا نحن [من يقتلهم]، ولا تتهم الثورة والثوار، وإنما من يقتلهم هو نظامك، والذي يقتلهم هو الاحتلال الروسي". وقلت له: "في أحد البنود: دعوة جميع الجيوش الأجنبية للانسحاب بحسب تسلسل دخولها"، وهنا ضحك، وأحسّ إما أنني لست جادًا، أو أنني أضع له شروطًا تعجيزية. وقلت له: "إذا كانت لديهم الجرأة أن يقولوا: إن كل من قتل من الشعب السوري أكثر فهو عدو للشعب السوري، فإنني أقول لك: إذا أطلقتم مبادرة بهذه العناوين، فكن على يقين أنني بصفتي الشخصية سأدعمك بها، وسأكون معك، وربما أوقع عليها أيضًا".
بدأ يقول: "إن الدولة ستدخل حتمًا"، وقلت له: "إذا استطاعوا فليدخلوا، ولكنك تتحدث عن معاناة منطقة ومعاناة شعب سوري واحتلالات، تعال لنجعلها بنودًا: 1-2-3-4، وتعال لنتفق عليها. وأنا لا أقول لك: نحن كغوطة نحتكر الثورة؛ فأهلنا الذين في دمشق وناسنا الذين في دمشق هؤلاء أيضًا يريدون مصلحة الشعب، ولكن هذه النقاط هل يختلف عليها شخصان؟". وهنا يبدو أنه كان يحمل رسالة، ويريد التسليم.
أذكر أنني في اليوم الذي دخلت فيه لأراه، قال لي الشباب الذين كانوا في الخارج من جماعته:" يا دكتور خلّصونا من أجل الله"، وأنا هنا شعرت أن القصة أو الفكرة التي يُروج لها عندهم أننا نحن الذين نعاند وأننا من يجرّ الويلات إلى الغوطة، وكأن هذا الطيران والراجمة التي تقصفنا هي آتية من المريخ، وليست معروفة من أين. في بداية حركة الضفادع لم تعزف في خطابها على فكرة المصالحة مع النظام، وإنما كانوا يقولون: "الشيخ لديه القدرة على منع دخولهم وانتهاك البلد، والجيش وصل إلى جسرين وافتريس (...). فليوقفوا الحرب".
بدأت تخرج الكثير من المراكز عن الخدمة، ونحن بقينا في الخدمة حتى سقوط كفربطنا، فمستشفى الكهف كانت لديه خطة الطوارئ والتحصين والمترسة والأنفاق والأماكن البديلة، وبقينا نعمل حتى يوم سقوط كفربطنا بيد الضفادع، وخروجنا ونزوحنا منها إلى زملكا. وكان هذا اليوم قاسيًا، ففي 18آذار/ مارس [2018] صباحًا سيطرت الضفادع على البلدة، وكنت ألتقي بشباب ميدانيين، وأسألهم عن الأوضاع، فيقولون لي: "نحن أصبحنا بين نارين؛ نار المرابطة في الجبهة، ونار حركة الضفادع التي من الممكن أن تستهدف أهالينا في الداخل".
مع تنامي هذه الحملة الهمجية المرعبة دخلت الغوطة في التيه في المراحل الأخيرة، وأصبحت الأمور فعلًا أكبر بكثير من طاقتنا. بدأت تسقط المناطق، وبدأ النظام يتقدّم في المناطق التي أخذها في شرقي الغوطة باتجاه البلدات، وفي يوم 18 آذار/ مارس صباحاً نزحنا إلى زملكا، وعندما أقول: نزحنا، لا أتحدث بشكل شخصي، فالبروتوكول والعهد في العمل الطبي هو أن نُخلي إصاباتنا وآخر شيء يخرج الكادر، فأخلينا الإصابات التي كانت لدينا، وانتقلنا إلى زملكا.
في الحقيقة لقد كانت ذكريات مؤلمة جدًا بتفاصيلها، وأذكر مثلًا حالة طفل كانت لديه إصابة في رأسه وكسر جمجمة وخروج المادة الجافية ويحتاج إلى ترقيع الجافية، ولا يوجد في متناول اليد جراح عصبية، ولا يمكن إخلاء الإصابات إلى مراكز ثانية، ففي الأصل هناك قسم توقف عن العمل، والذي كان يعمل فهو مشغول ومضغوط، وإمكانية النقل غير ممكنة على سطح الأرض، وأذكر أن طبيب عظمية أجرى له ترقيع جافية.
رأينا حالات مرعبة جدًا لا أستطيع أن أصفها، يوجد الكثير من الحالات رغم خبرتي الكبيرة، فقد كنت أعمل في أكبر مستشفى عسكري قبل الثورة، في مستشفى تشرين [العسكري]، وكنت جراحًا ذا خبرة وذا شهرة، ورأيت الكثير من الإصابات الحربية التي كان النظام يخليها إلى مستشفاه العسكري قبل الثورة، ولكنني لم أرَ مثل الإصابات التي كنا نراها. كانت توجد حالات قاسية مؤلمة بحيث كنت أجري عملية، وفي أعماقي أقول: "يا رب هذا المريض لا تكتب له حياة"؛ لأنني كنت أتخيل نمط الحياة التي سيعيشها كم ستكون قاسية! وكم سيمر بأيام وظروف صعبة حتى يستطيع أن يُشفى ويخرج!
أذكر مثلًا أنني كنت أريد أن أجري عملية، ولكنني أعرف أنه في الخارج توجد إصابات أخرى تحتاج إلى عملية، وجميعنا نعمل بطاقتنا القصوى. كان موقفًا مؤلمًا جدًا أنني مثلًا أخرج حتى أُدخل المريض الذي يليه، فيقولون لي: "استشهد"، وهو كان في الانتظار بينما ننهي عملية، وندخل إلى عملية ثانية. ومن القرارات الصعبة أن هذا المريض لا أمل له في الحياة، رغم أنه أتى إلينا وهو يتنفس، فجهزنا قاعة خاصة لهذه الحالات، مثلًا: المرضى الذين كانت لديهم إصابات رأس مفتوح وخروج مادة دماغية، وكنا [نقول:] "أدخلوا [المصاب] إلى تلك القاعة، وافتحوا له وريدًا دون أي محاولات إنعاش حتى يموت بسلام". وصلنا إلى تلك القرارات الصعبة والقاسية، فهناك إنسان أمامي، وأنا عاجز على أن أقدم له شيئًا، وعندما تمضي 24 ساعة دون نوم، فاليوم كله عمل، كان الله يعطينا قوة وطاقة العمل، ولكن وصلنا إلى هذه الحالات والخيارات الصعبة.
في يوم من الأيام خلال الحملة وبضربة واحدة، وجدت أناسي (الأشخاص المقربون مني)، طبيب زميل لنا، وكان عضو مجلس محلي، وابن خالتي، أنظر إليه وأقول: "يا الله! ما هذا؟ أحدهم فقد نصف جسده!". كانت مناظر مرعبة، وشيئًا لا أستطيع أن أصفه بصراحة، فأنا الآن أستذكره، وأعيش لحظته، ولكنني لا أستطيع أن أصفه. الإعلام والصور شاهدوا وغطوا، ولكن لم يتفاعل أحد، ونحن كنا نعيشها. وصلنا إلى مرحلة أننا في نهاية الـ 24 ساعة، مثلًا الساعة الخامسة صباحًا أنتهي وأقول: "فقط أريد أن أسرق ساعة نوم"؛ لأنني أعرف حتى هذه الساعة لن أستطيع أن أنام خلالها. فآتي وأرتمي هكذا.
المستشفى نفسه لم يبقَ فقط لنا، بل أصبح ملاذًا للناس؛ فنحن كنا قد حصنا المستشفى، وحصنا النفق، وحصنا المكان الاحتياطي، والمستشفيات الأخرى التي وصلنا معها كلها كانت محصنة، وأصبحت حتى هذه المستشفيات ملاذًا للناس، ولا نستطيع أن نردّ أحدًا، فالناس يهربون من الموت، ويريدون مكانًا يأوون إليه.
كنت آتي عند الخامسة صباحًا، وأحاول أن أجد مكانًا حتى أرتمي وأنام، فأجد طراحة (فراشًا من الإسفنج) أو بطانية ووسادة، ولا تمضي ساعة أو نصف ساعة إلا ويكونون قد احتاجوني لشيء. أخبرني الكادر بعد ذلك، فأنا لم أكن أشعر بنفسي، قالوا لي: "عندما كنا نحتاج شيئًا كنا نخاف أن نوقظك، كنت تستيقظ بشكل عصبي، ونحتار من الشخص الذي سيوقظك"، ولكنني كنت أستيقظ وأخرج. تلك الأيام والمشاهد لا أستطيع أن أصفها بصراحة، وأكثر من هذا الكلام يجب على الشخص أن يعيشها، ومن عاشها يشعر بهذه المواقف الصعبة التي عشناها.
من المواقف الصعبة أن الشهيد لا نجد من يدفنه، فقد استُشهد ابن عمي قبل سقوط كفربطنا بيوم، ومن شدة القصف حملنا جثمانه على نقالة في النفق، وكان نفقنا يمر من تحت المقبرة وله مخرج طوارئ عند المقبرة، فيسر الله له 3 أشخاص ليدفنوه، بينما الراجمة تضرب هنا وهناك، وكذلك الطيران. واقعٌ مرعب لا أحد يستطيع أن يصفه.
[بخصوص] المجتمع الدولي، وعلى صعيد التواصل مع الخارج، كان التواصل بالدرجة الأولى هو تواصل الإعلاميين مع الوكالات العالمية، وكنت أستغرب عندما يتصل بي مراسل "CBS وNBC وBBC" ويركضون وراءنا حتى نعطيهم إيجازًا عن الوضع. طبعًا نحن كنا نتحدث، ولكن من بين الأمور التي استوقفتني أنه تحدثت معي مراسلة "ITV "في إحدى المرات، فشرحت لها الوضع في الغوطة، وأثناء حديثي - وهي وكالة بريطانية - قلت لها عبارة: "ما هو عدد الضحايا الذي ينتظره العالم منا حتى يتحرك ويثبت مصداقيته؟!"، فوضعت المراسلة سؤالي نقلًا عني في تغريدة [على مواقع التواصل الاجتماعي]. وفي اليوم التالي، اتصلت بي، وقالت لي: "أنا وضعتها تغريدة، وشاركها عضو مجلس عموم بريطاني، ووعدني أنه سيطرح [الموضوع] في مجلس العموم حتى الحكومة تأخذ قرارًا". ونحن كانت لدينا قناتنا، وهي أولًا الإعلام العالمي عسى أن يحرك بهم شيئًا من جهة، ومن جهة أخرى نحن كنا كقيادة ثورية كنا نصدر ونشرح، ونصدر بيانات باللغة العربية والإنجليزية، شرحنا من خلالها الواقع، وحمّلنا المجتمع الدولي مسؤولياته، ولكن المشكلة أن القرارات الكبرى متخذة، والعالم عندما يريد أن يصمّ آذانه فهو يصمّها.
صدر في ذلك الوقت القرار 2401 من مجلس الأمن [الدولي] (في 24 شباط/ فبراير 2018 – المحرر)، وكان هناك تبنّي فرنسي لوقف إطلاق النار في الغوطة، فقلنا: "هذا جيد جدًا". وفي اليوم التالي التفّ الروس على القرار بفكرة هدنة الساعات الخمس، أي أنهم حددوا 5 ساعات يوقفون بها الغارات، وطبعًا بالتوازي مع هذا الكلام أطلقوا فكرة الممرات الآمنة، وبذلك جزّأ الروس القرار. تحدثت معي حينها مندوبة الـ "BBC " تسألني: "كيف الوضع الإنساني؟"، فشرحت لها، ثم قالت لي: "ألا ترى أن فرصة الساعات الخمس هي فرصة جيدة بالنسبة لكم لتخلوا إصاباتكم؟"، فقلت لها: "أنا أستغرب أولًا مبدأ هدنة الساعات الخمس، بينما [القرار] 2401 يقول وقف إطلاق نار، فهل 5 ساعات هدنة تعني شرعنة القصف خلال الـ19 ساعة المتبقية؟ أنتِ تسألينني [معتبرةً] أنها فرصة لخروج الجرحى، لماذا لا تكون الساعات الخمس [فرصة] لدخول القوافل الإغاثية الأممية الغذائية والطبية إلى الغوطة؟! هكذا يجب أن تكون إذا كان لا بد من أن تُستغل، أما 5 ساعات لشرعنة القصف خلال الـ 19 ساعة المتبقية، و5 ساعات حتى نخرج ومن أجل تهجيرنا؟!".
في ذلك الوقت، ومع بدايات شهر آذار/ مارس كان أخطر تصريح سمعته، وشممنا منه حينها رائحة التهجير، عندما صرّح [رجب طيب] أردوغان أنه مستعد أن يستضيف أهالي الغوطة في تركيا، وذلك إثر أخبار المآسي التي عاشتها الغوطة. وحينها نظرنا إلى هذا الموضوع بريبة، إذن القرار والتفاهم التركي الروسي ماضيان، والتركي يتقدم باتجاه عفرين، والروسي وضع خيار حسم ملف الغوطة، وبقي القرار 2401 حبرًا على ورق، ومؤسسات الائتلاف [الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية] والحكومة [السورية المؤقتة] كنا قد غسلنا أيدينا منها منذ زمن (فقدنا الأمل منها). [ففي الغوطة] كان التواصل مفتوحًا، والغوطة لم تكن مختبئة، بل كانت مكشوفة إعلاميًا، وكانت هناك تواصلات خلال الحملة الأخيرة من قبل أعضاء من هيئة التفاوض مع الغوطة من أجل الممرات الآمنة، وأذكر أن إحدى تلك الاتصالات جاءت من خالد المحاميد يقول: "أين موقعكم حتى نؤمّن لكم خروجًا آمنًا؟"، ولكنني لا أريد الخروج الآمن، إنما أريد البقاء في أرضي، وأريد أن توقف لي هذه الهجمة، أنا لا أريد أن أخرج آمنًا، أنا آمن في أرضي، أنا لا أريد أن آكل وأتعالج في الخارج، فقط أدخل لي موادي إلى الغوطة.
في الحقيقة نحن في الغوطة في واقع الحصار، قَبلنا كل ما صُنع في الخارج على مضض، وفتحنا خط تواصل بكل نشاطاتنا السياسية مع الخارج على أساس أننا نؤمن بضرورة التكامل، إنما في النهاية رأينا مؤامرة آستانة (بدأت مفاوضات مسار آستانة في 23 كانون الثاني/ يناير 2017 – المحرر)، وكانت مؤامرة مقايضة وتصفية مناطق واتفاقات خفض التصعيد، وكانت عبارة عن تجميد الصراع في مناطق لتمكين النظام من حسم مناطق أخرى، نحن كانت لدينا هذه القراءة. وعندما انعقد مؤتمر سوتشي (في 30 كانون الثاني/ يناير 2018 – المحرر) قمنا بفعالية كبيرة ضد مؤتمر سوتشي العار، ففي الوقت الذي كانت الغوطة تُذبح، وكانت تحت القصف، هم ذهبوا إلى سوتشي ليناقشوا مسودات دساتير.
الذي خرج من الغوطة وفاوض، وهذا الكلام أنا لا أستطيع أن أسلط عليه الضوء كثيرًا؛ لأنه ليس في منطقتنا، ولكنني سمعت عن طريق الدكتور سيف خبية الذي كان في الهلال الأحمر، وكان عراب اتفاق التسوية الروسي مع "جيش الإسلام"، وسمعنا قبل حركة الضفادع أنه ذهب إلى دمشق من معبر الوافدين، وليس لدي معلومات، ولكنها حقيقة تمّ تداولها. ومع تنامي حركة الضفادع والانهيارات والتيه الذي عاشه الناس والأزمات الشديدة الخانقة التي ظهرت، سمعنا فجأة بلجنة بدأت تتشكل على مستوى الغوطة بأكملها، وكأنه إذا لم نستطع أن نجزئ الغوطة، وإذا كانت الغوطة موحدة، فلتتشكل لجنة مضادة موحدة هي لجنة الضفادع التي كانت طبعًا تشمل الناس من دوما إلى قطاع الغوطة، وكان فيها بسام ضفدع وسيف خبية وبعض الأطباء وبعض الفعاليات هنا وهناك، وكانت هذه اللجنة مهمتها أن تجد مخرجًا.
طبعًا أعضاء هذه اللجنة كانوا عبارة عن مجموعة ولجنة مركزية، وخرج من رحم هذه اللجنة عرابو المصالحات المناطقية في مختلف المناطق، وكان لها دور سلبي، حيث تركت أثرها السلبي في واقع الغوطة. كنا قد حسمنا خياراتنا بالصمود والثبات، ولكن الأمور بدأت تتداعى، وأنا أذكر أنه في يوم 18 آذار/ مارس [2018] سيطرت "الضفادع" على كفربطنا، وخرجنا من مركز "إنقاذ روح" إلى زملكا.
وسط الجحيم الذي كان مفتوحًا على الغوطة، هناك الكثير من الأحداث التي تزامنت مع بعضها، وبينما نحن نتحدث عن حادثة بنسق [معين]، هناك حوادث أخرى كانت تجري بالتوازي معها وبالسياق ذاته والتوقيت ذاته. الصعوبات كانت فوق طاقتنا ككادر طبي، وكان حينها عنوان الصمود هو صمود المستشفيات، وأي منطقة كان يخرج مستشفاها عن السيطرة تُعتبر ساقطة؛ لأنه كان آخر ملاذ آمن بالنسبة للناس هو وجود المستشفى. وفعلًا كانت فعالية المستشفى، وإذا كان المستشفى القائم مازال قادرًا على أن يقدم خدماته، يبقى لدى المنطقة أمل وشعور بأن هناك كوادر. وإذا كان المستشفى قائمًا، فمعنى ذلك بالضرورة أن الوضع العسكري جيد، وهناك إمكانية لعلاج الإصابات، وإمكانية وجود مكان آمن، بينما خروج المستشفى عن العمل يعني سقوط المنطقة.
الكثير من المستشفيات خرجت عن العمل في بداية الحملة، وقسم آخر في منتصف الحملة، فبعض المستشفيات خطط التحصين فيها لم تكن تسير بشكل جيد، وبعض المستشفيات لم تبنِ مخازنها الاحتياطية. وأنا -الحمد لله- أقول: لقد عملت في مركزَين، وبقيا يعملان حتى آخر يوم، ولم يخرجا عن العمل إلا عند احتلال المنطقة فقط، أي عندما سقطت المنطقة. كنا دائمًا نقول إننا سنكون آخر من يخرج، وكنا دائمًا نجلس في حواراتنا أنا والدكتورة أماني [بلور] والكادر، ونعطيهم جرعات الصمود والثبات، وهم طبعًا لا ينقصهم الإيمان بضرورة الصمود والثبات، ولكنهم كانوا ينظرون لي بحكم عملي ومسؤولياتي السياسية، وكانوا يأخذون كلامًا مطمئنًا مني، وهذا الأمر كان يعطيهم دافعًا إضافيًا.
الشيء الذي أحمله وأعتبره جزءًا مني، هو تجربة مستشفى الكهف وتجربة مستشفى "إحياء نفس" ومركز "إنقاذ روح"، فأنا أعتبرهم جزءًا مني وأنا جزء منهم؛ لأننا كنا قادرين في هذه المراكز الثلاثة أن نعيش حالة ثورة، وأن نعيش الحالة الأسرية، حيث العلاقات لا يحكمها أمر إداري، وإنما تحكمها روح الثورة، والقيادة تأتي بعد ذلك بشكل تلقائي. تلك العلاقات الأخوية، والعلاقات التي كانت تتجاوز علاقات العمل، بمعنى أنك أنت طبيب وهذا ممرض وهذا إداري، وفي الحقيقة كنت أشعر بالأمان، وخصوصًا أنني كنت أعيش بمفردي. كان شعور الأمان، وشعور الانتماء لأشخاص وبشر، هو عندما أكون في أحد هذه الأماكن الثلاثة، وعندما أمارس عملي في مجموعة مجلس القيادة [الثورية في دمشق وريفها] التي استطعنا أن نخلق فيها تفاهمًا، وأن نقدم مسؤولية الصمود والثبات والغوطة والثورة والمشروع الوطني على كل الولاءات الثانية التي من الممكن لأي شخص أن يكون مؤطرًا تحتها.
في اليوم الخامس من آذار/ مارس [2018]، يوم المجزرة الكبرى التي حدثت قبل سقوط كفربطنا وقبل نزوحنا، هذا اليوم ترك بصمة في ذاكرتنا، حيث فقدنا فيه الكثير، مثل زميلنا الدكتور أحمد وهبة، وزملاء وأقارب، وذلك بضربة كبيرة ذهب فيها أكثر من 20 شهيدًا. يومها من كثرة الإصابات والإرهاق والأهوال، عندما كانوا يقولون لي: "هل رأيت فلانًا؟"، كنت أتوقع أنهم يقصدون أنه أتى، بينما كانوا يقصدون أنهم أحضروه جثة. دخلت إلى المكان الذي كانوا يضعون فيه جثث الشهداء، وكانت لحظات قاسية جدًا أن أرى زميلي أشلاء، وأرى رفيق دربي في عمل الثورة جثة، وأرى قريبي الشاب الذي كان يعمل في الثورة منذ بداياتها جثة، كان موقفًا مأساويًا. يومها أصابني انهيار، وضربت بيدي على الحائط قائلًا: "يا الله هذا كثير!"، سواءٌ من ناحية الشهداء أومن ناحية الجرحى.
كنا نشعر أننا مهما ركضنا (...)، ليت لي 20 يدًا حتى أقوم بـ 20 عملية في الوقت نفسه، فعندما أقدّم مريضًا أنا أحرم مريضًا آخر. كانت المواقف صعبة، فبكيت يومها، وكنت عنصر ثقة واطمئنان بالنسبة للكادر، ولكنني يومها خرجت عن كل شيء، وعدت لذاتيتي الإنسانية فقط، والموقف الذي لم أستطع أن أتحمله أبكاني. جاءني-ذكره الله بالخير- الدكتور حسين عبد الكريم، وقال لي: "معلم، أنت بالنسبة لنا صخر، اسمك صخر (الاسم المستعار للشاهد – المحرر)، وأنت الصخر الذي نستند عليه، وعندما بكيت بكى جميع الكادر"، وهنا أحسست بالذنب، وحمّلني مسؤولية، وكان يتحدث معي برجاء [قائلًا]: "نحن نستمد تماسكنا وثباتنا من تماسكك وثباتك".
كان هذا من الأعباء النفسية الجديدة التي أصبحت أحملها، وكان يتوجب عليّ أن أعطي دائمًا، وكان إيماني بأنك عندما تكون في أوقات الشدة وفي جو العمليات، أعطِ مزاحًا وكلامًا ثباتًا حتى يرتاح الكادر، فعندما تكون متوترًا يتوتر الكادر أيضًا. يومها أصبحت أحمّل نفسي مسؤولية إضافية فوق كل هذه المعاناة، طبعًا هذه المعاناة التي يعانيها الناس نحن أيضًا نعانيها، فكنا خلال 24 ساعة نأكل وجبة واحدة من وعاء، حيث كانوا يسلقون البرغل أو يسلقون شيئًا آخر، ونجلس جميعنا الطبيب والممرض والخدميّ والسائق ومن توفر من الناس؛ لأننا عندما نجلس نأكل كلنا معًا. هذا هو الواقع الذي عشناه، لقد كانت أيامًا صعبة وقاسية، وأيامًا معمدة بالدم، وكل لحظة فيها لها معاناتها. ولا أستطيع الآن أن أستذكر كل شيء، وربما الآن ذكرت بعض المواقف ولم أستطع أن أتحمّل الحديث أكثر عن تفاصيلها.
وفي الحقيقة الناس عاشوا تيهًا تحت هول التدمير المريع والموت الذي كان يحصد بالجملة، وكذلك الجوع والبرد، وتلك الحملة كانت في شباط/ فبراير وآذار/ مارس [2018] في ظلّ البرد والجوع وانعدام الأمن. و"الضفادع" لم يطرحوا حينها شعار المصالحة، وإنما استطاعوا أن يتسللوا إلى بعض الناس البسطاء بأن "الشيخ بسام لديه القدرة على إيقافهم ومنعهم من الدخول إلى البلد وانتهاك البلد"، هذا هو الخطاب الذي روجوه، وأن "الذين يقفون في وجه الأمر هم هؤلاء. اذهبوا إلى صخر وفلان وفلان". وأصبح هناك من يلحق بي حتى إلى المستشفى، ويقول لي: "دكتور أوجدوا لنا حلًا، لماذا أنتم تعاندون؟"، بمعنى أصبح هناك شكل من أشكال الخبث في طرح الخطاب، واستُغل فزع الناس وحاجتهم، وأصبحت القصة تنقلب بمعنى أننا نحن السبب.
معلومات الشهادة
تاريخ المقابلة
2019/09/13
الموضوع الرئیس
واقع الغوطة الشرقية عام 2018حصار الغوطة الشرقيةواقع الغوطة الشرقية عام 2017كود الشهادة
SMI/OH/52-50/
رقم المقطع
50
أجرى المقابلة
سهير الأتاسي
مكان المقابلة
اسطنبول
التصنيف
مدني
المجال الزمني
2017-2018
المنطقة الجغرافية
محافظة ريف دمشق-الغوطة الشرقيةمحافظة ريف دمشق-كفر بطناشخصيات وردت في الشهادة
كيانات وردت في الشهادة
حركة أحرار الشام الإسلامية
فيلق الرحمن
مجلس الأمن الدولي - الأمم المتحدة
جيش الإسلام
جبهة النصرة
جماعة الإخوان المسلمين (سورية)
الجيش السوري الحر

مركز إحياء النفس الطبي
مشفى الكهف في الغوطة الشرقية
القيادة الثورية في دمشق وريفها
مجموعة إنقاذ روح
الهيئة العامة في الغوطة الشرقية