الخيارات الصعبة، التفاوض مع الروس والتهجير القسري
صيغة الشهادة:
مدة المقطع: 00:36:38
على مستوى مجلس القيادة [الثورية في دمشق وريفها]، وبحكم أنني طبيب، فقد غرقت في الجانب الطبي والإنساني. وكنت أشارك في مجموعة [على وسائل التواصل الاجتماعي]، وأضع فيها بعض الآراء، وتمكنت من حضور اجتماعين أو 3 خلال هذه الحملة، ولكنني كنت حاضرًا على المجموعة. وبدأ يتبلور لدي أمر، ومثلي الكثيرون، بأنه مع طريقة التدمير الممنهج للغوطة لم يعد الأمر موضوع إيمان وثبات وخطة، وإنما هذا وحش منفلت من عقاله، يدمر كل الغوطة بشكل مستمر، وبدأ يقضم بعض المناطق، وبدأت تضيق المساحة، والموضوع أصبح مختلفًا، وبدأ يتوضح سيناريو كيف مضى موضوع الغوطة من طرف وعفرين من طرف آخر. وسقطت بلدنا كفربطنا بيد "الضفادع"، وذهبنا إلى زملكا.
في أول يوم التقيت مع سليمان الدحلا، وقلت له: "يجب أن نضع بمنتهى الوضوح خيارًا، وهو أن نجنّب ما تبقى من الغوطة (...)، وإذا كانت هناك إمكانية للخروج فلنخرج، وندع الناس ترى خياراتها. فهذا التدمير الممنهج لم يعد يقف بوجهه لا مستوى تسليحنا ولا الإيمان بالقضية؛ لأنه عندما تخرج طائرة، وتقصف 4 صواريخ في الوقت ذاته، وتهدم 4 أبنية في الوقت ذاته، وفي الخروج التالي تهدم [الأبنية] التي خلفها، يصبح تهديمًا ممنهجًا. وهذا قرار كبير، والعالم بعد [قرار مجلس الأمن] 2401 وقف موقف المتفرج، إضافة إلى المهزلة التي قام بها الروس بتفريغ القرار من محتواه من وقف إطلاق نار إلى هدنة 5 ساعات يوميًا مع فتح معابر ومع تنامي حركة الضفادع، إذن نحن مقدمون على الانهيار".
قلت له: "دعنا نذهب ونقابل [عبد الناصر شمير]"، وكان مقر القيادة قد انتقل إلى زملكا، وأصبحت المرحلة ذات عنوان عسكري، فقلت له: "دعنا نقابل أبو النصر (عبد الناصر شمير قائد فيلق الرحمن – المحرر)، ونضع هذه الخيارات، وننتهي". ذهبنا، وكان لديه حينها اجتماع عسكري مع قياداته، فدعانا للدخول قائلًا: "احضروا هذا الاجتماع، ثم بعد ذلك نجلس سويًا".
دخلنا، وحضرنا الاجتماع، طبعًا كنا قد طرحنا ما لدينا، وكنت قد طرحت رأيي هذا في الاجتماع، وكان قد دعا للاجتماع قادة الألوية والفرق، وبدأ اجتماعه قائلًا: "إن الأمور تسوء ونحن أمام خيارات حاسمة، وإذا تمكنا فلدينا ثغرة. نحن جهزنا أحد الأنفاق التي يمكن الاختراق من خلالها باتجاه النظام، ومن الممكن أن يُخلق منها ثغرة. والذي أفكر به هو التالي: أن نجمع من يريد أن يشارك في هذا العمل، وندخله جميعنا كمقاتلين، وأنا سأدخل به معكم كمقاتل بجعبتي وسلاحي". وفحوى المشروع أنه يوجد نفق يمررون منه مفخخة، ودائمًا العمل هو أن يخرجوا ويفتحوا النفق من طرف النظام، وتبدأ صدمة انفجار المفخخة الأولى، ثم يندفع الشباب. و[قال لهم]: "من كان مؤمنًا بهذه الفكرة يبقى في الاجتماع حتى نناقش التفاصيل، والذي لا يؤمن بها وغير مقتنع بها فالقرار طوعي وليس إلزاميًا ويستطيع أن يغادر الاجتماع". وفعلًا كانت هناك بعض القيادات والكوادر القيادية غير مقتنعين بالفكرة، [وقالوا]: "نحن في طور (...)، فلنحفظ ما أمكن ولنخرج، ونجنب الناس استمرار التهلكة التي نحن فيها"، وبعض الناس غادروا، ومن بقي ناقش التفاصيل، وصاغوا بيان موقف، وأذكر أنهم حسبوا، فكان لديهم 1000 مقاتل يستطيعون أن يدخلوا بهم تلك العملية.
خرجنا من الاجتماع، ودخلنا إلى مكتبه، فقال لي: "لماذا لم تتكلم؟"، قلت له: "أنا من الأشخاص غير المقتنعين بكل هذه الفكرة، ولكن عندما رأيت حماس الذين تجاوبوا معك، لم أحب أن أقدم رأيًا يخذلهم، رغم عدم قناعتي بكل فكرة المشروع". وجلسنا بعد ذلك، وكان موجودًا من تمكن من أعضاء مجلس القيادة [الثورية] من حضور الاجتماع. حللنا الموقف سياسيًا وخارجيًا وداخليًا وميدانيًا، وكانت كل المعطيات تشير إلى أن السيناريو هذا لن يتوقف إلا بتدمير المنطقة على رؤوس أهاليها، أو أننا عند لحظة معينة [علينا أن] نقف ونقول: "نجنّب [الغوطة التهلكة]، ونفتح قناة تفاوض مع الروسي؛ حتى نحصّل ما نستطيع تحصيله".
وهنا كانت هناك أصوات [تردد قوله تعالى:] "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة"، وكان لدي رأي بأن هذه الفئة القليلة الثابتة المؤمنة هي موجودة في البداية وموجودة الآن، وعندما كانت موجودة وفي ظهرها 10 آلاف مقاتل، وكانت الغوطة متماسكة والنظام غير متقدم، لم نستطع (...)، فهذه هي قدرتنا. وكانت فلسفة هذه العملية أنها عملية خيار شمشون، حيث نقتحم وندخل ونقلب الطاولة على الجميع وعلى العالم وعلى الدول، ونصبح في قلب دمشق، فالباص (المقصود باص التهجير) في أي وقت نركبه؛ لأن الروسي لن يعطي إلا الباص. لذلك دعونا نجرب هذا الخيار، وإن نجح، فنكون قد حسّنا وغيّرنا [الوضع] وأوقفنا الحرب، وطبعًا [العملية] لها حساباتها، فالحملة قائمة قائمة، ولكنني لم أكن من أنصار هذا الرأي.
هذا الاجتماع كان قبل يوم من دخولنا إلى [زملكا]، كان يوم 17 آذار/ مارس [2018]، وفي يوم 18 آذار/ مارس خرجنا صباحًا إلى زملكا، وعصرًا اتصل بي أبو محمد الفاتح (ياسر القادري – المحرر)، وقال لي: "توجد قناة تفاوض مع الروس، ونريد أن نشكل وفدًا يقابل الجنرال ألكسندر [زورين]، والرأي أنه يجب أن تكون موجودًا ضمن هذا الوفد". اجتمعنا، وكنت في الوفد أنا وسليمان الدحلا رئيس الأمانة العامة [للقيادة الثورية في دمشق وريفها]، وأبو خالد - جمال الزغلول رئيس الأمانة العامة لمدينة عربين وهي أكبر مدينة كانت متبقية في الغوطة، ورئيس أمانة حي جوبر الدمشقي، وهذا كان الوفد الرباعي الذي سيخرج ويفاوض الجنرال ألكسندر.
قلنا: "لنذهب، ونرى أبو النصر ماذا لديه ميدانيًا وعسكريًا"، والتقينا معه على عجل قبل أن نتوجه [للتفاوض]، فقال: "أنا أتمنى أن تستطيعوا أن تحصلوا على وقف إطلاق نار 24 ساعة؛ لأن إعدادات العمل الأخير تحتاج 24 ساعة فقط، وبعدها تختلف المعادلة".
كانت هناك غرفة عمليات مربوطة لاسلكيًا مع مترجم الجنرال الذي قال: "فلتختاروا الطريق الذي تريدون الخروج منه"، فنحن وضعنا 3 طرق؛ كي يتوقف القصف عليها، وكنا نحدد المسار عبر غرفة العمليات قبل أن نخرج، وغرفة العمليات هذه تعمل على طول مسافة الطريق، ونحن وضعنا 3 خيارات، وبعد ذلك اعتمدنا واحدًا منها. ذهبنا وتحركنا، كنا نحن الأربعة في سيارة، [وأخبرناهم] أننا الآن انطلقنا، وكنا نتحدث مع المترجم، فقال: "حسنًا، صدر أمر بعدم قصف هذه المنطقة"، قلنا له: "نحن نريد وقف إطلاق نار حتى نكون بأمان"، وفعلًا كان هناك وقف إطلاق نار خلال فترة دخولنا.
في البداية كان يتحدث عن وقف إطلاق نار على الطريق، ولكننا قلنا له: "إننا نريد وقف إطلاق نار حتى يتسنى لنا أن نجتمع ونلتقي، ونحن نريد أن نسلك هذا الطريق"، وبالنسبة لنا أي وقف لإطلاق النار كنا نعتبره مكسبًا، حيث يوجد على الأقل ساعة لن تُهدر بها أرواح. وعندما بدأنا نمشي، وكانت المسافة التي سنقطعها تبلغ كيلو مترين، كيلو متر واحد منهما في المحرر المتبقي وهو على خط زملكا حزة سقبا، هذا الخط الذي أردنا أن نمشي فيه، وكنا قد تحركنا لمدة 10 دقائق، فسمعنا صوت قصف، وبعد ذلك بدأ إمطار الطريق بالهاون.
انحرفنا عن مسارنا، ودخلنا الى قبو بناء، وتركنا التواصل مفتوحًا معه (مع مترجم الجنرال)، وقلنا له: "هذا قصف هاون"، وعلى الطريق نفسه، أمامنا بمسافة 500 متر كانت تهبط قذائف الهاون. فكانت جماعة الحرس الجمهوري أو الفرقة الرابعة على ما يبدو، يريدون أن يعرقلوا دخولنا حتى لا نلتقي مع الروس، فحينها كان هناك سباق محموم، وهذا شيء لمسناه بالفعل، بين جماعة كلمة "مصالحة" مع النظام، أي أن تخرج وفود محلية وتذهب باتجاه الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، وكلمة أن "تتحاور" مع الروسي، فأنت ستدخل إلى قائد العمليات نفسه. ونحن قلنا إن قناة التفاوض الوحيدة التي من الممكن أن نقبل بها على مضض - وفي الأصل ليس لدينا خيارات- هي الروسي.
وفعلًا [مترجم الجنرال] عاد وأجرى بعض الاتصالات، وقال إنه أعطى أمرًا بوقف القصف، فمشينا أيضًا لمدة 5 دقائق، وأصبحنا نمشي على مهلنا؛ لأننا نرى سلسلة حواجز، والطرقات جميعها تمشي بها بشكل متعرج، سواءٌ في مناطقنا أو في مناطق النظام، فتخيل أن هذه المسافة التي تبلغ كيلو مترين أو 3 كيلو مترات، تلك التي قطعناها، استغرقت معنا 3 ساعات بين قصف واتصالات لإيقاف القصف، إلى أن وصلنا إلى آخر حاجز جيش حر على مدخل سقبا.
هو (أي الروسي) لديه سلطة، ولكنه عزاها لخروقات محلية، بمعنى مناوشات، ولكننا في النهاية استنتجنا الأمر بشكل مختلف. وصلنا الى آخر حاجز للجيش الحر، فوقفنا وألقينا التحية على الشباب، وطبعًا كان لديهم علم بأن هناك سيارة مواصفاتها كذا، تتضمن وفدنا الذي سيذهب للقاء الجنرال. والمشكلة أن هذا اللقاء سيتم في الجزء المحتل، وبالتالي هذه العملية كانت عملية انتحارية، وكانت لدينا مخاوف، فإذا دخلنا وأمسكوا بنا، ماذا سيحدث بنا؟ ونحن لنا صفة، فإذا دخلنا وأخذونا وقالوا: "هؤلاء من الإرهابيين"، ثم جعلونا نظهر [على القنوات الفضائية]، وجعلونا نعترف بشيء ما، حينها سيكون الموت أسهل علينا، أو في حال مثلًا قُتلنا. وبالتالي هذه العملية كانت تحتاج إلى انتحاريين، فأنت تدخل إلى مناطق النظام، وإلى المناطق التي احتلها النظام البارحة وأول البارحة، وأنت في حالة حرب، كي تلتقي مع الروسي.
عند آخر حاجز للجيش الحر دعونا لهم، ودعوا لنا، وقطعنا 20 مترًا، ثم كان أول حاجز لـ "قوات النمر"، وكانت غرفة العمليات مفتوحة، والمترجم يتحدث معهم، ويقول لهم: "إن هؤلاء سيدخلون الى الجنرال"، وذلك حتى يسمحوا لنا بالمرور، ثم ندخل الى الحاجز الذي بعده وهو للحرس الجمهوري. والفكرة أننا بدأنا نرى التباين بين الروسي و"[قوات] النمر" من هذه الحواجز، ثم نذهب إلى الحاجز التالي، فيقولون: "من أنتم؟"، نقول لهم: "نحن الوفد، ذاهبون الى مكتب الجنرال ألكسندر، وها هو المترجم"، وكان يتحدث معهم، فيتواصلون مع قيادتهم، ونقف حتى يسمحوا لنا بالمرور، والذي بعده حاجز "النمر"، وهكذا.
وصلنا إلى ساحة سقبا، كان منظرًا مرعبًا ما رأيناه في الداخل من عتاد ثقيل ودبابات وعربات BMB وكثافة للوجود البشري، حيث كان هناك أكثر من 500 عسكري ينتشرون على الأسطح، وكانت حينها سقبا قد سقطت وأصبحت محتلة. جاء إلينا عقيد، فأوقفونا وقالوا له: "إن هؤلاء الذين طلبهم الجنرال"، قال لنا: "تعالوا، نريد أن نحتفل في ساحة كفربطنا، وتحضرون الاحتفال، وبعد ذلك ستذهبون". ونظرنا إلى بعضنا، وقلنا في أنفسنا: يا رب تصيبنا جلطة في مكاننا هنا ونموت، ولا نذهب معه. كثّفنا الاتصال مع المترجم، وقلنا له: "يريدون أن يأخذونا إلى مكان مجهول"، وعندها تحدث مع العقيد، ثم عاد ورسم لنا خطًا ثانيًا للطريق، و[قال:] "نلتقي عند مفرق جسر الغيضة في جسرين"، والحمد لله أننا هربنا من هذا الفخ.
وصلنا أخيرًا إلى مفرق جسر الغيضة في جسرين، وطبعًا جسرين كانت مهدمة ويتم تعفيشها (تُنهب الممتلكات فيها)، حيث رأينا بأعيننا كيف يحمل عساكر النظام الخراف والدجاج والبرادات. وصلنا إلى المفرق، فقال [المترجم]: "توقفوا عندكم وانتظروا، وأنا خلال دقائق سأكون عندكم"، وفعلًا خلال دقيقتين أو 3 جاءت سيارة الدفع الرباعي وأمامها مضاد 23، ونزل منها الجنرال بعنجهية الجنرالات.
طبعًا هنا كانت توجد نقطة لقوات النظام، كانوا حرسًا جمهوريًا، ونحن عندما توقفنا هنا وكان التواصل لاسلكيًا قبل أن يصل [الجنرال] لمدة دقيقتين، كنا ننظر إليهم بازدراء وهم كذلك، ولم يدر أي حديث أبدًا بيننا وبينهم، وهم متحفزون، ونحن متحفزون، ومعنا لاسلكي، ومترجم الجنرال يتحدث، وهم ينصاعون لهذا الجنرال.
عندما نزل [الجنرال] قلنا له: "أين سنجتمع؟"، فقال: "هنا"، وعلى طرف الطريق يوجد بناء مهدم، وطبعًا جسرين كلها مهدمة، وتوجد طاولة وكرسيان وبعض حجارة البناء فوق بعضها، فجلسنا هنا. بمجرد أن جلسنا قلناه له: "إذا سمحت -وأشرنا الى أولئك- نريدهم أن يبتعدوا"، وفعلًا بنظرة منه ذهبوا وابتعدوا 20 مترًا، وكانت [تلك إشارة منا] بأننا نتحدث معك أنت فقط. هم كانوا من جماعة الحرس الجمهوري، وطبعًا يوجد بينهم ضباط وعساكر، وفعلًا لم يقتضِ الأمر أكثر من نظرة من الجنرال، فابتعدوا, ولاحظنا أنهم كانوا يحاولون بهواتفهم أن يصورونا.
جلسنا، طبعًا نحن كنا ذاهبين باستراتيجية، واستراتيجيتنا للتفاوض تعتمد على التذكير باتفاق خفض التصعيد وعدم التزام الروس به، وتثبيت وقف إطلاق النار، وفي حال جرّ النقاش إلى قضية ["جبهة النصرة"]؛ لأن شماعة ["جبهة النصرة"] كانت من المعوقات من طرفهم ومن طرف النظام، كنا قد جهزنا استراتيجية التفاوض الخاصة بنا.
والحقيقة في بداية الحديث تذكرت درس التاريخ الذي كنا نقرأه عن إنذار غورو الذي سبق الاحتلال الفرنسي لسورية، فقد كان يرتدي لباسه العسكري، ويتحدث بعنجهية المنتصر. بدأ حديثه أول الأمر بعد أن عرّفنا عن أنفسنا قائلًا: "أريد أن أقول شيئًا، أريد أن أقابل قيادات عسكرية من فيلق الرحمن، ولا أريد أن أقابل قيادات مدنية، هذا أول أمر. والأمر الثاني: أنا لدي إنذار، فالساعة الثامنة مساءً يجب أن يكون المقاتلون قد تجمّعوا، والذين يريدون الخروج نفتح لهم طريقًا من هنا على جسر الغيضة إلى المليحة، وفي الساعة الثانية عشرة ليلًا سأحضر لهم الباصات، وأنقل فيها من أراد الخروج. وأنا كجنرال عسكري لا أخفي إعجابي بطريقة المقاومة والتكتيك والتحصين التي واجهناها في معاركنا في جوبر. وإذا لم تتم الاستجابة لهذا الطلب سأصدر الأمر بتحطيم زملكا وعين ترما وما تبقى من الغوطة، وسيسقط ضحايا، وستتحملون المسؤولية"، بهذه اللهجة كان يتحدث.
حاولنا أن نعود ونفتح قضية الالتزام باتفاقات خفض التصعيد ووقف إطلاق النار، فقال: "هذا كله شيء من الماضي، وفحوى الإنذار ما قلته". وهنا دخلنا في الخطوة الثانية، وهي كسب وقف إطلاق نار لمدة 24 ساعة عندما رأينا هذا الإنذار الصادم بهذا الشكل، والحقيقة أننا كنا نتوقع أن نسمع منه هذا الكلام، ولكن ليس بهذا الشكل الفج، فقلنا [في أنفسنا]: "يجب أن نلعب على وقف إطلاق النار لمدة 24 ساعة؛ لتمكين استكمال تحضيرات العمل الأخير". وهنا بدأنا نتحدث بمنطق أننا "نحن الآن كفعاليات مدنية حتى وصلنا إلى هنا، استغرق معنا الطريق 3 أو 4 ساعات، وأنت تقول: إنك تريد أن تبلغ أن هذا هو إنذارك، ولكننا ليس لدينا القدرة عندما نخرج من هنا على أن نعرف كم سيستغرق معنا الطريق إذا حدث استئناف قصف، هذا أولًا. وثانيًا: علينا أن نلتقي مع الفعاليات المدنية الأخرى". وبدأنا هنا نتحدث باستراتيجية أننا "كفعاليات مدنية علينا أن نضغط على الفصيل العسكري حتى يفتح الحوار معك حول هذه القضية. ونحن هذا الكلام في الظروف الحالية وبكل الأحوال سيستغرق معنا تقريبًا 24 ساعة، وليست لدينا تلك القدرة عندما تضع هكذا مهلًا، فهذا الموضوع الذي تريده حتى وإن تم بالتفاوض، لن يكون لدينا الوقت حتى ننجزه". هكذا بدأنا نلعب على تلك القصة عسى أن نمرر 24 ساعة يكون فيها وقف إطلاق نار.
في النهاية بعد صدّ وردّ، مدّد [الجنرال] إنذاره حتى الساعة 12 ليلًا، فقلنا له: "لا، لا يكفي حتى الساعة 12 ليلًا، ونحن نقول حتى الساعة 12 ليلًا حتى يأتيك رد ويرسلون وفدًا". ونحن هنا قلنا [في أنفسنا]: حتى الساعة 12 ليلًا يكون هناك وقف إطلاق النار، ونكون استطعنا أن ننجز تحرّكنا في المنطقة، [وأضفنا قائلين للجنرال:] "وذلك بحيث تصل الرسالة لقيادة فيلق الرحمن، ويقوم بالرد عليك، وتصل إجابته في الساعة 12 ليلًا، وبعد الساعة 12 ليلًا تلتقون وتتحدثون بالتفاصيل، بما أنك لا تريد أن تناقش المدني. وبالتالي مهمتنا التي نحتاجها، نحتاج حتى الساعة 12 ليلًا وقف إطلاق نار، ثم يصلك الجواب وبعدها تلتقون، الأمر الذي يقتضي أيضًا استمرار وقف إطلاق النار ريثما تضعون الترتيبات". هذا أقصى ما استطعنا أن نتوصل له، واجتماعنا معه لم يتجاوز الساعة، وأبدى خلال نقاشه، وذكر أكثر من مرة أنه كرجل عسكري يقدّر التكتيك والتحصين وإرادة القتال التي واجهها. [قال] هذا الكلام رغم فداحة الموقف، وكنا نشعر في داخلنا كالذي يذهب ليوقّع شهادة وفاته.
في الوقت ذاته قال [الجنرال]: "ومن يريد أن يخرج من المدنيين، فإنه يستطيع أن يخرج، وستجدون تسهيلات باتجاه الشمال، وستضمن الموضوع الشرطة العسكرية الروسية"، تلك هي النقاط التي تحدث عنها، [وأضاف:] "ستجدون أيضًا تسهيلات في عمليات التفتيش، ويستطيع أي شخص أن يخرج بأغراضه الشخصية. وفي وجهتكم إلى الشمال، سواءٌ باتجاه إدلب أو مناطق غصن الزيتون ودرع الفرات، سنجد تعاونًا من الأصدقاء الأتراك والقطريين". وهنا كان يوجد نقاش سابق بيني وبين أحد زملائنا من أعضاء مجلس القيادة [الثورية]، وقلت له: "عندما صرح أردوغان أنه مستعد أن يستضيف الغوطة، لم يكن تصريحًا إنسانيًا، وإنما هو وضع خيار التهجير"، وهنا قلت لصديقي: "هل سمعت؟".
يوم 18 آذار/ مارس، وبالضبط هذا التاريخ، في 18 آذار/ مارس من عام 2011 كنت قد خرجت في أول مظاهرة، وكنت في مثل هذا التوقيت الذي نحن فيه في الاجتماع، كنت معتقلًا، وكنت في قبو الشعبة السياسية، وكنت قد تعرضت للضرب ولدي نزف وكسر، ولكن مع ذلك كان ذلك اليوم أرحم عليّ من هذا اليوم. كان قاسيًا جدًا أنه في نفس التاريخ، وبعد سبع سنوات بالتمام والكمال، أنا مع عدو وعدو محتل، وأتلقى إنذار غورو، كان الموقف صعبًا جدًا، ففي نفس التاريخ مع فارق 7 سنوات، في 18آذار/ مارس من عام 2011 كنت في أول المظاهرات، وكنت معتقلًا، وتعرضت للضرب ومصاب ولدي كسر ونزف وفي قبو الأمن السياسي، ولكن حينها كان لدي شعور سعادة وأمل بأننا بدأنا خطوات في التغيير والثورة. وفي نفس التاريخ في 18آذار/ مارس [2018] أجلس مع عدوي المحتل، وأتلقى إنذار غورو، وعلى بعد عدة كيلو مترات كان بشار الأسد قد دخل إلى إحدى المناطق المحتلة في الغوطة ليضع رمزية أنه حرر الغوطة، وفي الوقت ذاته في الشمال تركيا تعلن تحرير عفرين. بالنسبة لي تزامن هذه التواريخ مع بعضها لم يكن بريئًا، وبسبب هذا الموقف في الحقيقة كدت أن أصاب بجلطة يومها، وكنت أقول [في نفسي]: "يا الله! نفس اليوم ونفس التاريخ، بينما أنا الآن أمام هزيمة عسكرية، أمام انكسار، أمام واقع بأن المطروح أمامي الآن هو أنني سأتهجر من الغوطة".
رمزية الغوطة التي كنا نشعر بها ليست فقط لأننا أبناء الغوطة وهي غوطتنا وبلدنا، وإنما الغوطة هي دمشق، وهي الندّ المكافئ للنظام، وهي النموذج الذي كان يؤرق النظام. وفي الغوطة، ورغم ارتباطات الفصائل بالدول الإقليمية ومال الأجندة الذي دخل، استطعنا أن نخلق فيها النموذج الوطني، وكانت لدينا القدرة على أن نصنع قرارنا المحلي الخارج عن إرادات الدول، ويبدو أنه لهذا السبب كان هناك قرار بإسقاط الغوطة مهما يكن الجحيم الذي تتعرض له الغوطة، والفاتورة الكبيرة التي دفعناها. كان يومًا مأساويًا، وفي بعض الأيام تحضر إلى ذاكرتي بعض اللحظات، فأقول: "يا الله! ماهي هذه الرمزية؟! فهناك موقفان الفارق بينهما 7 سنوات". وأشعر أنها تجرح كثيرًا، وأصبر على هذا الجرح، ولكن المسؤولية التي كنا أمامها اضطرتنا إلى أن نكون بهذا الموقف.
في الحقيقة بعد أن انتهى الاجتماع، عدنا بنفس الترتيب الذي دخلنا به. وطبعًا لم تكن [روحنا] روح انكسار، فقد كنا نقول له: "إن هذا التدمير هو على المدنيين"، ولكنه لم يخجل، ولم يرفّ له جفن عندما قال: "سأدمر، وسأحطم، وسأكسر، وسيموت مدنيون"، ولم تكن لديه مشكلة عندما قالها. ونحن كنا نقول له: "بما أنك تقول إننا قد ثبتنا، فهذه الحرب إذن هي حرب إبادة"، ولم يكن لديه تعليق؛ فهو جاء ليبلغ رسالة ويمضي. لذلك أنا لا أسميها مفاوضات، فأكبر هامش استطعنا أن نصل إليه هو أن يمدد مهل وقف إطلاق النار، ولكن الأمر منته. وفي حال لم نتفق معه، وعاد ودمّر، فسيكون الموقف استراتيجيًا منتهيًا.
طبعًا نحن كنا نريه التماسك والتمسك بقضيتنا، وأن قضيتنا ليست قضية فصيل، وهذا الكلام سمعه وتُرجم، [وقلنا له:] "نحن نرفض هذا الكلام، ونحن في الأصل ليست لدينا ثقة لا بفكرة المصالحة ولا بغيرها. وإذا كنت تقول: فصيل، فنحن مدنيون ونحن نرفض النظام، ولا نطمئن للنظام، وأول طلب طلبناه منك هو أن تبعد هؤلاء، كي لا يكونوا جالسين عندما نتحدث. وإذا كان لا بد من خروج الفصيل، فنحن المدنيون سنخرج أيضًا؛ لأنه لا أمان لنا مع النظام، ونحن مصرون على درب الثورة، ولسنا مستعدين للرجوع إلى النظام والقول له: نحن نريد أن نصالح، أو نحن كنا تائهين والآن صحونا. لا، نحن مصرون على درب الثورة". وهذا الكلام وروح الحديث هذا سمعه بشكل واضح، ولكن المنطق الذي كان يتحدث به هو منطق الإجرام والعنجهية، ولكن هذا الحديث لم تغب عنه بعض الومضات، بمعنى الاعتراف بحقيقة أنه لمس روح مقاومة وتكتيكًا وتحصينات عالية.
وهنا عدنا بنفس الطريقة التي دخلنا بها، ووجدنا قلقًا كبيرًا لدى الناس، حيث [قالوا لنا:] "كيف تذهبون بهذه الطريقة الانتحارية؟!"، وهنا أقول: أنا مؤمن بأن هناك عملًا ما، يجب أن يقوم به شخص ما في هذا الوقت، وإذا لم يكن هذا الشخص موجودًا، فليست لدي مشكلة أن أقوم أنا به. الأمر الثاني أنني لم أكن أطمح دائمًا أن أكون هدّافًا في فريق، وإنما أطمح أن أكون لاعبًا في خط وسط وصانع ألعاب، ولكن عندما أجد أن هناك ثغرة ولا يوجد هدّاف، فليس لدي مشكلة أن أدخل حتى أكون الهدّاف، وحينها أصبح رأس حربة. في النهاية تلك هي فلسفتي الشخصية، وكل فريق كبير في الغوطة مؤمن بالثورة وبالمشروع الوطني كان يفكر تقريبًا بهذه العقلية.
المشكلة أنه أصابنا مثل مصاب من يتلقى خبر موته الحقيقي: فكرة التهجير وأن تسقط الغوطة، ولكن أمام الواقع الذي نحن فيه هذا هو الخيار المتاح. والحقيقة لا أستطيع أن أصف شعوري كيف كان، فقد كنت أقول: "يا الله! أنا ذاهب إلى الموت، ليس الموت البيولوجي، ولكننا سنخرج".
عدنا وبلغنا مجلس القيادة [الثورية في دمشق وريفها]، وأخبرناهم ما الذي حدث معنا. كان لدى الناس القلق الشخصي؛ لأنك ذهبت إلى منطقة العدو، وكان من الممكن أن تكون نهايتك هناك. وأنا من الأمور التي جعلتني أشعر أنني لست وحيدًا ولي ناسي الحقيقيون، هي نظرة القلق التي كنت أراها لدى الجميع، و[كانوا يقولون]: "كيف تذهب هكذا ولا تخبرنا؟! ولماذا أنت ذهبت؟!"، وأنا سمعت هذا الكلام كثيرًا، وفي النهاية ذهبنا، وعدنا، وهكذا كان الموقف. طبعًا في مجمل الغوطة، سواءٌ في الوسط الطبي أو المدني أو العسكري، كان منطق الأمور واضحًا، ولم تبقَ هناك حاجة لأن يغمض الشخص عينيه، ويقول: "أنا لا أرى"، فهناك واقع نراه، وهو تدمير ممنهج سينتهي بالخروج. كان شعور [الناس] هو شعور الأسى والخذلان، شعور الغضب المكبوت، فأنت أمام الخيار الذي لا تتمناه، ولكنك أصبحت أمامه، فلابد من مواجهة هذه الحقيقة.
هنا عدنا، وقلنا: "إنه (أي الجنرال الروسي) يرفض التفاوض مع المدني، ومهمتكم الآن عبر غرفة العمليات هي التواصل، أو تسريب خبر، أو المماطلة، أو الدخول في مفاوضات". وحدث بعد ذلك جولتا مفاوضات، إحداها كانت في كازية سنبل، وعندها وجدت أنه ليس من الضروري أن أكون في هذه الجولات؛ لأنها ستناقش تفاصيل موتك، وأنا تلقيت قرار الإعدام، فتفاصيل الموت لم تعد تهمّني، وكان طابع المفاوضات عسكريًا.
وأذكر أنه كان [في اللجنة] أبو نعيم يعقوب (حسان عطايا – الشاهد) من قيادة "فيلق الرحمن"، وأبو علام (ماهر المصري – الشاهد) من قيادة "الفيلق"، وذهب معهما في الجولة الثانية وجه مدني هو الدكتور فايز عرابي. الجولة الثانية لم أكن فيها، ولكن الذي سمعناه أنها كانت جولة [قالوا] فيها: "لقد لويتم ذراعنا بالمدني، ولولا المدني لن تأخذوا سنتيمترًا واحدًا"، وكان هناك كلام مؤثر كثيرًا لأبي نعيم يعقوب في وجه الجنرال، والجنرال أبدى إعجابه أكثر من مرة إعجابه خلال الجولات التالية بطريقة الصمود والثبات، وحتى إنه طلب خريطة الأنفاق لجوبر وتحصينات جوبر، ولكن بقيت كل تلك الأمور أمورًا معنوية.
معلومات الشهادة
تاريخ المقابلة
2019/09/13
الموضوع الرئیس
واقع الغوطة الشرقية عام 2018كود الشهادة
SMI/OH/52-51/
رقم المقطع
51
أجرى المقابلة
سهير الأتاسي
مكان المقابلة
اسطنبول
التصنيف
مدني
المجال الزمني
2018
المنطقة الجغرافية
محافظة ريف دمشق-الغوطة الشرقيةمحافظة ريف دمشق-كفر بطنامحافظة ريف دمشق-زملكامحافظة ريف دمشق-جسرينشخصيات وردت في الشهادة
كيانات وردت في الشهادة
الفرقة الرابعة دبابات (مدرعات) - نظام
فيلق الرحمن
جبهة النصرة
القيادة الثورية في دمشق وريفها
قوات النمر
الحرس الجمهوري